تشكل انطلاقة العهد الجديد بحكومة إصلاحية مطلباً لبنانياً لتحديد ملفات الهدر والفساد، ليس فقط بهدف فضحها، وإنما لمحاسبة كل من تسبب بانهيار القدرة المعيشية وأساء الى نوعية الخدمات البديهية التي يفترض توافرها للبنانيين، من ماء وكهرباء واتصالات وغيرها. والتطلع لأن تكون هذه الحكومة سنداً حقيقياً للهيئات الرقابية، لما تشكله من سلطة قضائية مالية، قادرة على إسقاط أحكام تعيد أموال اللبنانيين من جيوب من نهبوها تحديداً.
الإختبار الأول لصدق هذه النوايا، ربما يترجم في صدور الأحكام القضائية النهائية في ملف ديوان المحاسبة الموثق حول الإرتكابات التي تعاقب عليها ستة وزراء بصفقات استئجار وشراء مبنيين من قبل شركة تاتش، الأول في الشياح والثاني في الباشورا. وكان هذا الملف قد فتح على مصراعيه منذ شهر أذار من العام 2023، من خلال تقرير مفصل صدر عن ديوان المحاسبة، شكل مضبطة قضائية مالية بحق ستة وزراء متعاقبين على وزارة الإتصالات منذ العام 2012، وكان يفترض أن تصدر أحكامها النهائية منتصف العام الماضي، إلا أنها تأخرت حتى بداية هذا العام.ملف الفساد في الإتصالاتالملف وفقاً لمعلومات "المدن" أودع منذ أكثر من شهر لدى النيابة العامة التمييزية في ديوان المحاسبة، بعد أن درس بشكل معمق من قبل غرفته الإتهامية برئاسة القاضي عبد الرضا ناصر وعضوية المستشارين محمد الحاج وجوزف كسرواني. وقد انكبت الغرفة على إعداد خلاصاتها المبنية على دفوعات قدمها كل من الوزراء المتهمين، بدءاً من نقولا صحناوي مروراً ببطرس حرب، فجمال الجراح، محمد شقير، طلال الحواط وجوني القرم. علماً أنّ الإتهامات المنسوبة لكل منهم تتفاوت بين التقصير في اتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية، كما هي الحال بالنسبة لحرب وحواط وقرم، وبين تورط مباشر في الصفقات كما هي الحال بالنسبة لصحناوي والجراح وشقير.
حدد الديوان المسؤوليات بالأسماء وبحجم تورّط كل طرف مسؤول عن هدر المال العام أو تعريض ممتلكات الدولة للخطر، وأظهر التداعيات الناتجة عن الإرتكابات، والتي تبيّن أنها لا تنتهي عند الخسارات التي وقعت، وإنما بما قد تؤدي اليه من تبديد إضافي للأموال. وإنطلاقاً من هنا من المرتقب أن تصدر الأحكام بتغريم من تثبت إدانتهم بهدر الأموال العامة، وإلزامهم بإعادتها من أموالهم الشخصية. على أن تحدد هذه المبالغ "بالنسبة والتناسب" وتعاد بموجب سندات تحصيل، عملًا بالفقرة 2 من المادة 45 من قانون المحاسبة العمومية.
وكانت الغرفة الإتهامية في الديوان قد أبلغت الوزراء بتهمهم، وأمهلتهم بعد صدور قرارها الإتهامي المؤقت 60 يوماً لتقديم دفوعاتهم. تأخر بعض الوزراء في تقديم هذه الدفوعات، وجاءت إجابات بعضهم بملحقات رفعت الى الهيئة الإتهامية. وعليه تتحدث مصادر مواكبة عن خلاصات للرئيس المقرر القاضي عبد الرضا ناصر تقع في أكثر من سبعين صفحة مرفقة بكم كبير من المستندات والأوراق والدفوعات، وهذا ما يجعل منه ملفاً ضخما جداً، ربما تحتاج مطالعته في النيابة العامة الى وقت أطول مما تحدده المادة 70 من قانون ديوان المحاسبة، والتي تمهل النيابة العامة عشرة أيام لإنهاء دراسة الملف وإعادته الى الهيئة الإتهامية، خصوصاً أن الملف يتعلق بستة وزراء مما يجعله يوازي ستة ملفات كما تقول المصادر.
بعد نحو شهر من تحويل الملف الى النيابة العامة، تتوقع مصادر متابعة مطالعة النيابة العامة قريباً. وإلا فإن أي تأخير إضافي، سيشكل مبرراً لما يتم الحديث عنه من ضغوطات مورست وتمارس لمنع صدور الأحكام النهائية، أو أن يكون التأخير مقصوداً حتى لا يأتي صدور الحكم بغياب سلطة سياسية مكتملة، خصوصاً أن هذه الأحكام تشمل وزراء من مختلف الانتماءات.التقرير الأولوكان صدور تقرير ديوان المحاسبة الأول قد استرعى اهتمام الرأي العام اللبناني والهيئات الرقابية الدولية، لما شكله من جرعة أمل في محاسبة من حولوا وزارة الاتصالات الى "مغارة" فتحت أعين الهيئات الرقابية التي نجحت خلال العامين الماضيين بفرملة عدد من الصفقات، على الرغم من الصعوبات والضغوطات العديدة التي عانتها.
إلا أن المضبطة الإتهامية الأولى التي أصدرها الديوان حول صفقات المباني أظهرت تبديد أكثر من عشرة ملايين دولار في مبنى "قصابيان" بالشياح، بمقابل الإفصاح عن سعر لمبنى الباشورا تبين انه أقل بـ34 مليون دولار عن الثمن الحقيقي الذي كان سيسدد.
هذا مع الإشارة الى أن تاتش لم تشغل مبنى قصابيان في الشياح، ولكنها لا تزال مطالبة بتسديد كامل قيمة العقد الموقّع، بعد الدخول في نزاع قضائي مع مساهميها. علماً أن تقرير الديوان الذي ذكر ثلاثة وزراء توالوا على فصول استئجار المبنى، أظهر أن الوزير شربل نحاس رفض الصفقة في سنة 2011 لأسباب علّلها بـ"قدم المبنى، إرتفاع بدل الإيجار، وكونه في حالة غير مناسبة". فجاء الصحناوي في سنة 2012 ليبدي قبولاً تاماً لها، وسط إصرار مريب على إتمامها من قبل لجنة إشراف المالك، وهي لجنة يعيّن الوزير أعضاءها لتمثيله في علاقاته مع الشركة المشغّلة. بينما طلب حرب الإستفادة من إمكانية الفسخ المبكر للعقد فور انتهاء السنة الثالثة، إلا أن مساهمي "قصابيان" رفضوا الأمر وقدّموا دعاوى لحفظ حقّهم بالعقد.
في مبنى الباشورا بالمقابل تحدث تقرير ديوان المحاسبة عن تلاعب بأرقام وإجراءات عملية استئجار جرت للبلوكين B و C من مبنىCITY DEVELOPMENT المشغول حالياً، ومن ثم شرائهما. ويحدد الديوان في تقريره الإتهامي مسؤولية أربعة وزراء توالوا على الصفقتين هم كل من الجراح وشقير، المتورطان مباشرة بصفقتي استئجار مبنى تاتش في الباشورا ومن ثم شرائه، والحواط والقرم اللذين إتهمهما التقرير بالتخلف عن وضع إشارة عقد البيع الموقع مع CITY DEVELOPMENT على الصحيفة العينية للعقار، على رغم معرفتهما بتداعيات هذا الإهمال. مع الإشارة الى أن صفقتي استئجار ومن ثم شراء المبنى هنا، هي أيضاً موضوع شكوى جزائية بجرائم صرف نفوذ وتبييض أموال وإهمال وظيفي قدمها سنة 2020 وسيم منصور المدير العام السابق لشركة "تاتش" بصفته صاحب سهم فيها.
الأمر الإيجابي السريع الذي تحقق من جراء تحريك قضية هذا المبنى في ديوان المحاسبة كان في وضع نيابتها العامة إشارة عقد بيع لصالح شركة تاتش على العقار المذكور، بمقابل سعي وزير الاتصالات الحالي الى إجراءات تخفف من مرارة كأس المحاسبة المالية، عبر رفعه دعوى مضادة بوجه الدعوى المرفوعة من قبل مالكيCITY DENELOPMENT، وذلك بعدما أودعت تاتش لدى كاتب عدل شيكين مصرفيين سددت من خلالهما قسطين من الأقساط المتأخرة. هذا التدبير إستتبع لاحقاً بإعلان القرم عن شراء المبنى، مستفيداً من إنهيار قيمة العملة اللبنانية، التي جعلت مبلغ 175 مليار ليرة لبنانية يوازي الـ 1.8 مليون دولار على سعر صرف السوق الموازية حينها.
فهل يشكل صدور الأحكام النهائية في هذا الملف فاتحة العهد الإصلاحي المنشود؟