الزمن حرب، والبيت ليس بيتنا، والمدينة ليست مدينتنا، والمدرسة أونلاين.تطلب المعلّمة من طلابها قراءة نصّ بعنوان "القبّرة والفيل". لطالما كانت نصوص "كليلة ودمنة" مناسبة لطلّاب المدارس، ولحصّة اللغة العربية. ولطالما كانت مناسبة لتبسيط مفاهيم الظلم والتجبّر وغرور السلطة وحيلة الضعفاء المقهورين في مواجهتها.الزمن حرب، والبيت ليس بيتنا، والشوارع المتفرّعة من مبنى سكننا غريبة وصاخبة، لا نكاد نسمع لشدة صخبها صوت أشواقنا للعودة. نقفل النوافذ جيّداً. نرفع صوت معلّمة اللغة العربيّة التي لا شكّ تهجّرت هي أيضاً إلى مكان صاخب آخر فاختارت أن تنتقل وطلابها إلى مملكة دبشليم أو بلاط كسرى أنوشروان أو غابات الهند. يدوس الفيل الضخم على بيوض القبّرة وفراخها فيقتلها جميعها. تنتقم القبّرة من الفيل بالتعاون مع الضفادع والطيور، حيث تقوم الطيور بفقء عينيه وتضلّله الضفادع ليقع في حفرة عميقة ظنّاً أنّها نبعة ماء. تقف القبّرة فوق الحفرة وتلقّن الفيل درساً. إنّها صغيرة الحجم ضعيفة منزوعة السلاح، لكنّها، بالتعاون مع كائنات ضعيفة مثلها، استطاعت أن تفقأ عينيه وتوقعه في حفرة سيهلك فيها.أصغر طيور الغابة في مواجهة أضخم حيواناتها. يؤلم الأقوى الأضعف، يسحق قلبه، لكن الأضعف بحيلة وتخطيط مدروسين ينتقم ويسلب الأقوى نظره ثم يوقعه في الهاوية التي لا يمكنه، بسبب ضخامته، الخروج منها.الزمن حرب، البيوت تُهدم، البنايات تُدكّ، الأجساد تُسحق، والعالم يتفرّج ويستلذّ ويستزيد. المجرمون يحتفلون بإجرامهم. لا أحد يهبّ لقلع عيونهم وإيقاعهم في الحفرة. لكنّ الدرس درس، لا يتغيّر فيه حرف، وستمتحن المعلّمة طلابها اليافعين في قراءته والإجابة عن أسئلة "في فهم النصّ" وأسئلة حول المفردات والعِبرة... من سيجيب أنّ الضعيف ينتصر على القويّ سينجح في مادة "فهم النصّ"، ومن يجيب بالعكس ربّما سينجح في مادّة "فهم الواقع"، الواقع الذي يعيشه والذي هو "الحرب". أمّا ما كانيتوقف ابن المقفع بين قصة وأخرى ومقطع وآخر، في النقلات الدراماتيكية للأحداث ليكتب: "أمّا ما كان من الفيل"، "أمّا ما كان من القبّرة"، "أمّا ما كان من الضبّ"، "أمّا ما كان من الملك"... تأتي هذه الصيغة البليغة لتعلن تطوّراً ما في حياة الشخصيات ومسار القصّة. شهرزاد أيضاً في لياليها الألف كانت تعمد إليها. لقد صنعت جزءاً من سحر حكاياتها العديدة المتوالدة بعضها من الآخر."أمّا ما كان" من الفئة الضعيفة المقهورة التي داس العدو المحتلّ القهّار الجبّار على أبنائها وبيوتها وأوطانها، وأمّا ما كان ممن بقي في غابتنا هذه ومن ابتعد ومن مات ومن عاش، فالأمر يختلف عن حِكم "كليلة ودمنة"، ومواعظ الفيلسوف بيدبا. في نهاية درسنا نحن، يسحق جبروتٌ عالميٌّ شعباً أعزل يقتله عطشاً وجوعاً ويترك جثثه للكلاب ويسلبه الأرض والسماء وحتّى القبر.أمّا ما لم يكنلكنّ "ما لم يكن" أوجعُ بكثير، وأوضح. ما لم يكن يا ابن المقفّع ويا بيدبا أنّ القبّرة والضفادع والطيور الصغيرة لم تنجح حتّى الآن في هزيمة الفيل. نريد أن يصدّق أطفالنا أن الفيل سيُهزم، لكنّ هذا لم يحدث لنا ولأهلنا وأسلافنا. "ما لم يكن" من الفيل أنه هُزم وهلك، و"ما لم يكن من القبّرة" أنها انتقمت لصغارها وضربت في بطش الفيل مثلاً للأمراء والملوك والحكّام قبل العامّة وطلّاب اللغة العربية في المدارس.فقط في حصّة اللغة العربية، يقع الفيل في الحفرة، ويستمرّ المعلّمون بإدراج هذا النصّ في برنامج القراءة، ويجعلون الفيل يقتل فراخ القبّرة والقبّرة تنتقم وتُهلك الفيل في الختام.لقد هلك ذاك الفيل قبل قرون، انتقمت القبّرة قبل قرون، ونحن القرّاء الأوفى للقصّة، نضرب فيها مثلاً على حالنا، منذ قرون، من محتلّ غاشم وحاكم طاغية إلى محتلّ غاشم وحاكم طاغية آخر وآخر. من امبراطورية مستبدّة إلى أخرى وأخرى.ألا يدفعنا درس إبادة غزّة والحرب على لبنان واحتلال جنوبه إلى مراجعة النصوص والقصص (من إيسوب إلى لافونتين إلى ابن المقفّع) التي هندست أدمغتنا وأفكارنا؟ درس "النملة والجندب"، درس "الحمامة المطوّقة"، درس "الأرنب والسلحفاة"... لم تكن قصصاً ممتعة لأجل المتعة، بل كان عليها أن تقدّم حكمة. هل هذا حقّاً ما نحتاج إليه في المدارس؟ ألا يجدر أن يُكتب في مطلع كلّ درس أنّ أيّ تشابه بين القصّة والحياة الواقعيّة هو مصادفة؟ وأنّ أفكار الكاتب تعبّر عنه فقط، وليس المعلّم والمدرسة مسؤولين عنها؟ أنّ الأشياء والأحداث التي تظهر على صفحات هذا الكتاب ليست دقيقة، وأبعادها واهمة؟ أليست الوعود بالأمل والعدالة والسلام إيهامات مؤلمة، كالتعذيب بالإيهام بالغرق مثلاً؟ في ختام درسنا لليوم، فإنّ "ما كان منّا" أنّنا بقينا في حفرة الانتظار، ننتظر أن ننتقم ونخرج من تلك الحفرة المرعبة إلى الحياة.