في حديثه إلى قناة "العربية" قبل حوالى شهر، وضع السيد أحمد الشرع قائد الإدارة السورية الجديدة، مدة أربع سنوات كهدف لإجراء أول انتخابات سورية، بعد إقرار دستور جديد وقوانين انتخاب. حينها رأى البعض هذا السقف الزمني أبعد مما ينبغي. والحق أنه قد يكون سقفاً طموحاً بناءً على ربطه من قبل السيد الشرع بعودة اللاجئين ومشاركتهم في العملية الانتخابية، وهو يبقى طموحاً حتى إذا اقتصرت العودة على لاجئي المخيمات في الداخل وفي دول الجوار.إذا كانت الانتخابات السياسية تعبّر عن مصالح السكان، وصراعاتهم السلمية، فالانتخابات السورية المرجوّة لن تكون هكذا، لا لأنها ستكون بمثابة تمرين أول على العملية الديموقراطية، لكن لأن السوريين لن يصبحوا جاهزين (على الأرجح) في المدى المقرَّر كي يؤسسوا لمصالحهم في سوريا الجديدة، ويبنوا عليها خياراتهم السياسية. ما وصلت إليه سوريا من دمار وانقسام هو جانب مهم من المعضلة، يُضاف إلى الإرث الفادح الأسدي، فأسوأ ما فعله الأسد لم يتوقف عند منع حرية التعبير والحريات السياسية؛ هو أيضاً ألغى علاقات المصالح وصراعاتها بين السوريين، لتصبح علاقة كلّ منهم بالسلطة على حدة. وبهذا ألغى الاجتماع السياسي والوطني معاً.
مصيبة غياب الحامل الاقتصادي للسياسة تتجلى اليوم في الأفكار التي تظهر بعيدة عن الواقع البائس، ليفصح أنبلها عن حسن نوايا إزاء المستقبل ليس إلا. في حين يزاحم على الصدارة أكثرها تطرفاً، ويتمكّن المتطرفون بأصواتهم العالية من حجز مكان بارز على منصات السوشيال ميديا. وهكذا تبدو النوايا الحسنة بلا أنياب كتلك التي لنظيرتها المتطرفة.من الطريف ربما أن يكتب سوريون، سمحت أوضاعهم الإدارية والمعيشية بالذهاب إلى سوريا فور إسقاط الأسد، أن الواقع الذي شاهدوه في سوريا مختلف عمّا هو متداول على وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن منشوراتهم هم أنفسهم على وسائل التواصل تخوض في النقاشات أو المهاترات ذاتها، أي أنها لا تضيف جديداً، ولا تخوض في ذلك المختلف، والأقل مدعاةً للتشاؤم بحسب كليشيه صارت متداولة بلا تمحيص في دلالاتها. ونعلم أن نسبة كبرى من الزائرين ستعود إلى مواطن لجوئها، أي أن أفرادها سيعودون إلى الموقع الذي ينتقدونه الآن من سوريا.
قبل سقوط الأسد، كان مرفوضاً ذلك الكلام عن سوريي الداخل والخارج، لأن معظمه كان يصبّ في منحى تعنيف اللاجئين إلى الخارج فوق مأساة اقتلاعهم من بلدهم. بالطبع، القسمة النظرية بين داخل وخارج تهمل أن الداخل ليس واحداً، وأن الخارج ليس كذلك أيضاً. لكننا، بعد إسقاط الأسد، نفترض أن تتناقص ثم تتلاشى عواملُ الإكراه التي تجبر السوريين على البقاء في الخارج بخلاف إرادتهم. ونفترض أيضاً عودة الحياة إلى طبيعتها في سوريا، العودة التي تتضمن نشاطاً اقتصادياً لا تحتكره السلطة على غرار العهد البائد، وهذا النشاط بطبيعته سيؤثّر على الأفكار والآراء والتحالفات السياسية المستقبلية.الافتراض الأساسي، في حال توفرت السياسة، هو أن تكون أصوات السوريين في الخارج امتداداً لأصوات نظرائهم في الداخل، لأن الذي يحدث وذاك المطلوب حدوثه هما في الداخل أصلاً. الواقع مختلف عن الافتراض النظري، إذ تسهل ملاحظة ميل نسبة كبيرة من سوريي الخارج إلى التطرف بالمقارنة مع الداخل، والفئة المعنية هي ألوف أو عشرات ألوف السوريين الذي يعبّرون عن آرائهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وللبعض منهم عدد كبير من المتابعين ما يوحي بتأثيرهم على الرأي العام.
جراء الإبادة والتهجير الأسديين، هناك عائلات بأكملها تشردت في الشتات، وهناك عائلات انقسمت بين داخل وخارج، وهناك عائلات بأكملها صارت في بلدان اللجوء الغربي وهي من مناطق أقلّ تضرراً بعد الثورة، وأقلّ تعرّضاً لملاحقة المخابرات. في الحصيلة هناك عدد ضخم من سوريي الخارج ليسوا على تماس مباشر مع الداخل، ومعرفتهم بالأخير توقفت مع نزوح أهاليهم. هؤلاء لا يستنبطون آراءهم من الواقع السوري، بما أنهم منقطعون عن تفاصيله وحساسياته، ما يسهّل عليهم أن يشطحوا بتطرفهم كما يشاؤون. وهذا يلاقي على وسائل التواصل الاجتماعي ميلاً عاماً إلى الشعبوية والتطرف اللذين يأتيان بمتابعين ولو على سبيل الفضول.من السهل على السوري المنقطع فعلياً عن الداخل أن يشجّع الآن أي فعل لا يخدم السلم الأهلي، بما أن أحداً مقرَّباً منه لن يكون ضحية العنف الأهلي إذا اندلع. من السهل عليه مثلاً التشجيع على الهجوم على قسد، مثلما من السهل على مناصر لقسد في الخارج أن يشجّعها على القتال حتى آخر كردي. الاثنان أشدّ تطرفاً من الجهة التي ينحاز كلّ منهما إليها، بما أن تلك الجهة تتصرف بموجب حساباتها الواقعية لا بموجب شعارات التطرف القومي. ومن السهل، في مثال ثانٍ، أن يسارع المتطرف ذاته إلى مباركة تعديلات في المنهاج الدراسي تنتقص من حق التلامذة في الوصول إلى المعلومة، بينما أبناؤه في مدارس غربية تسهّل الوصول إلى هذا الحق عبر المنهاج وخارجه.
في السياق نفسه، لا يخجل متطرف أو متطرفة من البتّ بصحة أو عدم صحة أخبار واردة من قرية سورية لم تسبق لهما معرفتها، ولا يردعهما انكشاف جهلهما عن تكرار ذلك، ولا يردع أمثالهما عن تصديقهما لاحقاً. وإذا كانت وسائل التواصل في وقت ما بمثابة الوطن الافتراضي البديل عن الوطن الواقعي غير المتاح، فإنها بالنسبة لهؤلاء المتطرفين الوطن النهائي، والوطن الأمثل لجهة التفلّت من المسؤولية، ومن أي عقاب أيضاً. من هذه الناحية، يمكن تشبيه وسائل التواصل بسوريا الأسدية التي يودّ معظم السوريين الخلاص من إرثها.بالنسبة للتطرف السوري، لا نجازف بالقول إنه ليس ابناً بالمعنى المباشر للظلم، والفكرة الرائجة عن تسبب المظالم بالتطرف لا ينبغي فهمها ميكانيكياً. فالأكثر تأذياً بين السوريين ليسوا الأكثر تطرفاً، والمظالم توجِد بيئة خصبة للذين يستثمرون فيها مزايدين بالتطرف، أما الربط الميكانيكي بين الأمرين فهو بدوي عشائري ثأري.
التطرف في مؤدّاه الأخير معادٍ للديموقراطية، لأنه مشروع سلطة لا تعترف بالآخر المختلف. ظاهرياً، يبدو كأن ذلك منصرف إلى الآخر، الطائفي أو العِرقي، إلا أن المعتدلين (من المذهب أو العرق نفسه) هم أول الضحايا الفعليين. مع ذلك، الخشية من المتطرفين يجب ألا تحجب أولوية الديموقراطية والسياسة، بوصفهما أيضاً من أدوات محاربة التطرف. أما العنوان الذي بدأنا به، وغايته منع المتطرفين من الانتخاب، فهو بالتأكيد على سبيل المبالغة؛ المبالغة اللطيفة مقابل ما يتحفوننا به على مدار الساعة.