في صباح اليوم الثاني على التوالي للعودة، تجمّع أهالي بلدة عيترون عند مدخل الضيعة في القطاع الأوسط، كان المشهد متكرّرًا، ولكن مشحوناً أكثر بالتوقعات، بعد تطمينات رئيس البلدية يوم أمس ودعوته للتجمّع باكرًا، مؤكدًا: "سيتمكن الأهالي من الدخول إلى بلدتهم التي حرمتهم الحرب منها، ولم يتمكنوا من دخولها البارحة".
مع خيوط الفجر الأولى، بدأت السيارات بالتوافد على الطريق المؤدي إلى عيترون. أطفال يجلسون في المقاعد الخلفية، يتأملون الطريق بعينين متلهفتين، بينما الكبار يتبادلون أحاديث مقتضبة يغلب عليها الأمل الحذر. وجوههم تحمل شيئًا من بريق العودة المنتظرة، رغم التعب الذي رسم خطوطه بوضوح على ملامحهم.انتظار الدخولالسيارات اصطفت على طول الطريق، فيما "الدرون" الإسرائيلية تحلّق فوق الرؤوس، تراقب المشهد من علٍ. أطفال يحملون الأعلام بألوانها المختلفة، وكبار السن يرفعون صور الشهداء بين أيديهم، وكأنهم يستحضرون أرواحهم للمشاركة في لحظة العودة. وسط الزحام، طفلة صغيرة ترتدي بذلة الجيش اللبناني، وعلى رأسها شعار "بأبي الشهيد لبيك"، تسير بثبات يتجاوز سنوات عمرها القليلة، كأنها تجسد إرث التضحيات في خطوة صغيرة.
الأحاديث بين الأهالي لم تنقطع؛ كل منهم يحكي قصته عن أيام الحرب القاسية: كيف عاشوا، كيف نجا البعض بأعجوبة، ومن فقدوا من أحبائهم. أصواتهم كانت مزيجاً من الحزن والاعتزاز، بينما آخرون التزموا الصمت، يراقبون آليات الجيش التي تتقدم أمامهم، ومصير هذا الانتظار الطويل. كانت نظراتهم تتأرجح بين الأمل والقلق، يتساءلون إن كان هذا اليوم سيحمل لهم "الحصرم"، أم سيعودون بخيبة جديدة.
في زاوية أخرى، كان أحدهم يشرح لصديقه عن طريق داخل البلدة. كلامه يحمل في طياته ذكرى موجعة. توقف لبرهة وقال: "ذاكر وين استشهد عباس؟ هونيك، بمحاذاة الطريق الفرعية..."
بعد ساعات من المشاورات المكثفة، ظهر رئيس بلدية عيترون، سليم مراد، ليكسر الصمت بتصعيد واضح. حيث منح الجهات المسؤولة مهلةً ساعة لتأمين الدخول، مهددًا بأنه إذا لم يتحرك أحد، فإن الأهالي سيدخلون بمفردهم، رغم وجود الاحتلال في البلدة. وبعد لحظات من التوتر والتحدي، أعلن مراد بصوته الحازم: "الأهالي سيدخلون البلدة بمرافقة الجيش اللبناني"، وبدأ بإعطاء تعليماته، ليُشعل أجواء الحشد بحماسة وسعادة.لحظة الدخولمشياً على الأقدام، على متن الدراجات النارية التي تجمّعت كطوفان بشري، وبالسيارات التي ازدحمت بها الطريق الضيقة، بدأ الأهالي التقدّم نحو أول الضيعة. بالرغم من استشهاد 6 أشخاص البارحة مع تقدمهم، الحشود أمس كانت كتلة واحدة من العزم والغضب، تتقدّمها ملامح التحدي على الوجوه وأصوات تهتف بقوة: "هيهات منّا الذلة"، "لبيك يا نصرالله"، "جيش، شعب، مقاومة". الهتافات لم تكن مجرد كلمات، بل كانت إعلاناً عن قدومهم، وكأنها تحملهم نحو الأرض التي قرروا استعادتها.
ومع اقترابهم من أطراف البلدة، اخترقت المشهد رصاصات غادرة أطلقها قناص متمركز داخل أحد البيوت، مستهدفة الأهالي والآليات المرافقة. لكن شيئاً لم يتغير، لم يخف أحد، لم تتراجع النساء، ولم تهتز عزيمة الرجال. على العكس، ارتفعت الأصوات أكثر، كأنها تتحدى القناص نفسه: "إذا هيدا العدو ما بدو يفل، بصدورنا المكشوفة رح نطلع ونحارب"، قالها رجل وهو يرفع يده في الهواء. من خلفه، ردت امرأة بحزم: "جينا نحرر الجنوب، رح نحررك".الخيبةجلس الأهالي على العشب والأرصفة لساعات طويلة، أعينهم معلّقة على الساتر الترابي الذي يقف بينهم وبين أرضهم، يترقبون لحظة هدمه والعبور إلى البلدة التي احتضنت ذكرياتهم وألمهم. كان الصمت يثقل الأجواء، إلا من أصوات متقطعة تتخللها همهمات الأمل وشهيق الانتظار. فجأة، اخترق الرصاص الصمت، رشقات نارية أطلقها الجيش الإسرائيلي من بيوت تبعد 300 متر، لترسم خطوط الخطر على الطريق الممتد أمام الأهالي.
استسلم البعض، أطفأ الأمل في أعينهم، وانسحبوا بخطوات مثقلة بالخيبة. بينما بقي آخرون، متجذرين في الأرض، مصممين على البقاء، معتبرين أن العبور ليس إلا مسألة وقت. وعندما عمد بعض الشبان إلى الدخول إلى البيوت المتناثرة على أطراف الطريق، أطلق الإسرائيلي النار بلا هوادة.
كانت الخيبة واضحة على وجوههم، لكنها لم تسرق منهم الإصرار. "ما رح نستسلم، ولو مهما صار بدنا نرجع كل يوم!"، قالها أحد الرجال، صوته ممتزج بالغضب والأمل، وكأنها رسالة تحدٍ للإسرائيلي الذي لا يزال يتربص بهم. كان المشهد أشبه بصراع مستمر، حيث الأهالي يرفضون الانكسار، معلنين بحضورهم أن الأرض لا تُترك، وأن انتظارهم، مهما طال، هو امتداد لحقهم الذي لا يُسقطه الرصاص ولا الخوف.
مع غروب الشمس، انسحب الأهالي إلى سياراتهم، كانوا ينظرون إلى الساتر الترابي الذي ما زال قائمًا، وفي أعماق عيونهم بركان من الإصرار ينتظر الانفجار. رغم الخيبة التي رسمت ملامحهم، كان الإصرار أقوى. "بكرا يوم جديد"، قالها أحدهم، وكأنها وعد يردده الجميع بصمت، بأن الأرض تنتظرهم، ولن يخذلوها.