أقامت مؤسسة لقمان سليم ومنتدى الشرق الأوسط للشؤون السجنية، في سياق النشاطات الموازية للحدث السوري، لقاءً تناول موضوع الاغتيال السياسي ودور العنف القائم على هذا النوع من التصفية الجسدية كأداة لتحقيق أهداف سياسية. كان ضيف الملتقى، الكاتب والشاعر السوري فرج بيرقدار، وأدار الجلسة المُحامي فاروق المُغربي. وقدم بيرقدار رؤى حول تأثير الاغتيالات السياسية في المجتمعات وقيم الحرية والعدالة. وركز النقاش على العلاقة بين السلطة والعنف في توظيف الاغتيال كوسيلة لتكريس الهيمنة وتصفية المعارضين.
تناول بيرقدار آليات العنف السياسي، مسلطًا الضوء على الاغتيال بوصفه ظاهرة تاريخية وتحولات الأنساق العنفية. أشار إلى انتقال العنف السياسي من كونه اغتيالًا ممنهجًا ومقروءًا سياسيًا يُدار كجزء من إدارة الصراع، إلى عنف قائم على وجود سلطة قاتلة، حيث يصبح الموت وسيلة عقوبة جماعية تطال المجتمع بأسره. كما استعرض الجرأة المتزايدة في الاغتيال عبر الحدود، مع الحفاظ على الأطر العنيفة الميليشياوية التي ترافق العنف العسكري المؤسساتي. وأوضح تقسيمات العنف الداخلي والخارجي، حيث يُمارَس داخليًا ضد المعارضين، وخارجيًا عبر اغتيالات تستهدف مفكرين وساسة ونشطاء في دول مثل فرنسا ولبنان. كما تناول توزيع أهداف العنف، الذي بدأ بإسكات النخب والساسة، وصولًا إلى محاولات إسكات المجتمع بأسره عبر أدوات الردع والترهيب.
غطى فرج بيرقدار، استنادًا إلى معطيات أساسية، ملامح المرحلة السياسية التي شهدت تبني شكل خفي من العنف في الاغتيالات خلال الخمسينيات والستينيات، مستهدفًا النخب السياسية اليسارية والقومية. أشار إلى كيف دفع هذا النوع من العنف المجتمع إلى الابتعاد عن الفاعلين السياسيين، ليتم تمسرح العنف فيهم وتحويله إلى رسالة تحذيرية موجهة للمجتمع بأكمله. استشهد بيرقدار بالمرحلة الناصرية، مشيرًا إلى اغتيال فرج الله الحلو كأحد الأمثلة البارزة، وواصل المقارنة بالسبعينيات والثمانينيات التي شهدت الحملة الكبرى ضد النخب والعاملين في السياسة اليسارية. خلال هذه الفترة، انتقل العنف إلى مستويات غير مسبوقة، مستهدفًا النخب داخل السجون وخارجها، بطرق شملت القتل السياسي المباشر، والتصفيات داخل المعتقلات، والنفي والطرد القسري للمعارضين السياسيين. كما أشار بيرقدار إلى أن هذه الحملة في الثمانينيات حملت طابعًا أكثر شراسة وارتباطًا بأساليب العنف الميليشيوية، التي هدفت إلى إحكام السيطرة التامة على المجال السياسي وإخضاع المجتمع لترهيب جماعي.
تتوالى الشخصيات التي ذكرها فرج بيرقدار في حديثه، مستخدمًا أسلوبًا قائمًا على استحضار الأمثلة لشخصيات تحمل دلالات سياسية واجتماعية مختلفة. أوضح كيف يمكن للشخص أن يمثل تياراً سياسياً وبُعداً اجتماعياً ورمزياً في لحظات تاريخية متباينة. كما تناول مفهوم التصفية الرمزية، حيث لم تعد الشخصيات المستهدفة تمثل قيمة سياسية فقط، بل أصبحت تعبيرًا عن مرحلة سياسية تتسم بالعنف المنهجي والدلالي الموجه في وجه المجتمع بأسره. وأشار إلى أن هذا العنف يتجاوز مجرد القتل الجسدي، ليصبح أداة لترسيخ رسائل ردعية جماعية تهدف إلى إخماد أي تحركات معارضة، وإعادة تشكيل المجال الاجتماعي والسياسي وفقًا لهيمنة النظام. استعرض بيرقدار كيف تغيرت دلالات القتل والعنف الموجه مع تطور واستقرار نظام الأسد، حيث تحول العنف إلى وسيلة لإعادة هندسة العلاقة بين السلطة والمجتمع، بما يعزز من استدامة السلطة عبر القمع الرمزي والمادي.
يشرح بيرقدار تقنيات الاغتيال التي أسسها النظام السوري، مبرزًا كيف تجاوزت عمليات القتل إطارها المباشر أو المعنوي. أشار إلى أن النظام، في عهد حافظ الأسد، تبنى نهجًا يعتمد على استسهال اللعب بحياة معارضيه كاستعراض للعنف وتوكيد له كعلاقة، مما أدى إلى استخدام أساليب تتسم باللامبالاة والقسوة اللامتناهية. استعرض بيرقدار أمثلة لشخصيات قُتلت بطرق تتراوح بين التغافل المتعمد عن إعطاء الدواء للمرضى، وترك المعتقلين يموتون تحت كرسي التعذيب دون أي معالجة، وصولًا إلى عمليات قتل غامضة تخفي خلفها نوايا ممنهجة.
وتناول فكرة التداخل الاصطلاحي بين القتل والاغتيال، موضحًا كيف أدى ذلك إلى طمس الحدود بين الأشكال المختلفة للعنف الموجه، بحيث أصبح من الصعب التفريق بين القتل العشوائي، القتل المنظم، والاغتيالات الرمزية. وأشار إلى أن هذه العمليات كانت جزءًا من هندسة قمعية للموت في سوريا، حيث طُورت استراتيجيات متنوعة تهدف إلى إدارة حياة وموت الأفراد بما يخدم تثبيت السلطة.
وأكد أن هذه الاستراتيجيات تنقسم إلى نوعين: الأعمال القصدية التي تُنفذ بعناية لإرسال رسائل محددة، مثل ترك شخصيات معينة تموت ببطء تحت التعذيب أو في السجون كرمز لقمع المعارضة، والنتائج العرضية التي تنتج عن استرخاص حياة البشر، حيث يُقتل الناس نتيجة قرارات عشوائية أو إهمال متعمد من دون أي اعتبار لإنسانيتهم. هذه الاستراتيجيات، وفقًا لبيرقدار، لم تقتصر على إخضاع الأفراد، بل عملت على تطويع المجتمع بأسره من خلال تحويل القتل إلى رسالة شاملة مفادها أن حياة الجميع تحت رحمة النظام.
تحدث بيرقدار عن التحولات الكبرى التي تصاعدت مع بشار الأسد، حيث أصبحت عمليات القتل أكثر وضوحًا وشمولية. أوضح أن القتل لم يعد موجهًا فقط نحو الأفراد أو النخب، بل تحول إلى استهداف للمجتمع بأسره وللأرض، مما يعني أن الاغتيال بلغ أقصى ما يمكن أن يكون عليه، بوصفه إنهاءً للآخر بشكل كامل. وأشار إلى أن النظام الأسدي دفع بفكرة القتل المستدام إلى منتهاها، حيث لم يعد القتل مجرد وسيلة لتحقيق غاية سياسية أو عسكرية مؤقتة، بل تحول إلى عملية مستمرة ومنهجية تستهدف إدامة الخوف والسيطرة.
في هذا السياق، تطورت فكرة القتل لتتجاوز البعد الفردي أو المؤسساتي التقليدي، حيث أصبحت المؤسسة نفسها أداة قتل مستدامة تعمل دون توقف، مدفوعة بسياسات موجهة لإعادة تشكيل المجتمع وفق مقاييس السلطة. هذه السياسات لم تؤثر فقط في الأفراد، بل امتدت لتشمل البنية الأنثروبولوجية للمجتمع السوري، حيث أعادت هذه الاستراتيجيات تشكيل علاقة الناس ببعضهم البعض وعلاقتهم بالأمكنة. ضرب بيرقدار مثالاً على ذلك بأزمة النزوح، التي لم تكن مجرد حركة جماعية من مكان إلى آخر، بل أزمة وجودية تعيد تعريف علاقة البشر بالمساحات التي عاشوا فيها، وتُنتج شعورًا بانقطاع الارتباط بالمكان والانتماء.
في ختام اللقاء أشارت هناء جابر، المديرة التنفيذية لمؤسسة لقمان سليم، لـ"المدن": أنهُ في إطار المؤسسة الدائمة في توثيق الاغتيالات السياسية في المنطقة، دفعنا سقوط النظام السوري إلى طرح هذه المسألة كجزء من ضرورة البحث المُعمق في موضوع الاغتيال السوري بعيداً من الخوف الذي كان يبثه النظام السوري بين الباحثين وحتى بين المستمعين وهم كثر لمعرفة تاريخ أدق لجرائم النظام السوري، خاصة أنه يتم تغطية الكثير من الشهادات رغم كثرتها، لكن تفكيك السرديات ودراسة أنماط القتل والاغتيال تضيف للمركز وللفضاء للعام أبعاد باتت ضرورية لتفكيك سرديات الاستبداد والقتل، على أمل أن يساهم التوثيق والبحث في شأن العنف الذي مورس في سوريا، بشقيه السياسي والقانوني، في تخفيف وطأة العنف المجتمعي وملاحقة المرتبكين وبث الوعي في أهمية العدالة الانتقالية.