أشعلت الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد التباين، بل التضارب، بمصالح دول كثيرة لعلّ أبرزها تركيا وإسرائيل وإيران على السواء، ووضعت مصالح الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الحاضرتيْن عسكرياً وأمنياً عبر قواعد ثابتة في عين الصراع، ووضعت دولاً ثالثة في موقع المترقّب بحيطة وحذر كالأردن والعراق ومصر وبعض دول الخليج.
وإذا تقاطعت مصالح تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة على عداء الأسد، غير أنّ تلك المصالح لم تتوافق على ملء الفراغ من قبل هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع. فعلى الرغم من أنّه تباين مع أنقرة أيّام إدلب حيث لم تكن أنقرة راضية عن أداء الهيئة واعتمدت أكثر على فصائل موالية لها، غير أنّه يرتكز إليها اليوم كقوة دفع إقليمية كبرى تفتح له أبواباً دولية مقفلة وتواكبه في خطواته للحصول على شرعية يحتاج إليها كي يتمكّن في حكمه ويفتح سوريا للعالم من جديد.الشرق الأوسط الجديد في خطابه الشهير في الأمم المتحدة، في السابع والعشرين من أيلول للعام 2024، وقبل ساعات من اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، تحدّث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن رؤيته لـ"إعادة تشكيل الشرق الأوسط". في هذا الخطاب، عرض نتنياهو خريطة أسماها "الشرق الأوسط الجديد"، وقد أظهرت الدول التي تربطها علاقات سلام أو تطبيع مع إسرائيل باللون الأخضر، بينما ظهرت إسرائيل، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة، باللون الأزرق. شرق أوسط جديد تكون فيه لإسرائيل اليد العليا من خلال ما حققته من إنجازات، بحسب تصورها، في غزة والضفة ولبنان وسوريا وإيران واليمن ربما، في ضرب المحور المرتكز إلى إيران، بل وفي استهداف إيران نفسها.
لم تكد حرب نتنياهو على لبنان تتوقف حتى حصل ما لم يكن في الحسبان: سقط نظام الأسد في 8 كانون الأوّل 2024، ودخلت سوريا مرحلة جديدة تواكبها تركيا عن كثب ضمن رؤية استراتيجية مختلفة عن تلك الإسرائيلية على الصعد كافة، من طرق النقل البري إلى أنابيب النفط والغاز وإمداداتها إلى التجارة البينية مع دول الإقليم، بل مع العالم. فتركيا، ومنذ عقديْن أو أكثر، رغبت في أن تكون نقطة وصل لأنابيب النفط والغاز، في حين عملت إسرائيل على تجاوز تركيا عبر أنابيب بحرية، ورغبت تركيا في أن تكون معبراً برياً عبر شبكة قطارات أهمها خط الحجاز.إسرائيل تتوجس في السادس من كانون الثاني 2025، أصدرت لجنة ناغل الإسرائيلية التي تضم 14 خبيراً ومسؤولاً سابقاً ذوي مناصب رفيعة في مواقع أمنية وحربية ويرأسها الجنرال المتقاعد يعقوب ناغل رئيس مجلس الأمن القومي الأسبق، تقريراً لافتاً بشأن ميزانية الدفاع واستراتيجية الأمن، إذ دعا إلى ضرورة استعداد إسرائيل لمواجهة مباشرة مع تركيا. فبحسب التقرير، يمكن لطموحات تركيا لاستعادة نفوذها في عهد الإمبراطورية العثمانية أن تؤدي إلى تصاعد التوترات مع إسرائيل وتتطوّرها إلى صراع بين الطرفيْن. وحذّر التقرير من أنّ خطر تحالف الفصائل السورية الحاكمة مع تركيا، قد يشكّل تهديداً جديداً وخطيراً لأمن إسرائيل، قائلاً: "التهديد القادم من سوريا قد يتطوّر ليصبح أكثر خطورة من التهديد الإيراني"، إذ أنّ "القوات المدعومة من تركيا قد تعمل كوكلاء يعززون عدم الاستقرار في المنطقة". في تعليقه على التقرير، قال نتنياهو: "نشهد تغيرات جذرية في الشرق الأوسط. لطالما كانت إيران تهديدنا الأكبر، ولكن هناك قوى جديدة تدخل الساحة، ويجب أن نكون مستعدين لما هو غير متوقع".
اللافت هنا أنّه على الرغم من القوة المفرطة التي استخدمتها إسرائيل، لم تتمكن من تحقيق انتصارات قاطعة في أي مكان من مواقع الحروب التي شُنَّت، بخلاف تركيا التي حقّقت انتصارات قاطعة في مواقع متعددة وأقاليم شتى من شمال أفريقيا إلى القوقاز إلى المشرق العربي.تركيا توسّع نفوذهافي 27 تشرين الثاني 2019، وقّعت حكومة الوفاق الوطني الليبية بقيادة فايز السراج وتركيا مذكرتيْ تفاهم، تقضي الأولى بترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، أمّا الثانية، فاتخذت صيغة مذكرة تعاون أمني وعسكري يسمح لتركيا بتقديم دعم عسكري مباشر لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً. نجح التدخل التركي إذن في تغيير مسار الصراع في ليبيا لصالح حكومة الوفاق الوطني وعزّز النفوذ التركي في شمال أفريقيا، وأثار أيضاً مخاوف وتحفظات دول إقليمية ودولية أبرزها إسرائيل. وفي العاشر من تشرين الثاني للعام 2020، حقّقت تركيا انتصاراً إقليمياً بارزاً من خلال توقيع وقف النار في إقليم ناغورنو كاراباخ وتسليم القطاع لحكومة أذربيجان الحليفة اللصيقة لتركيا والصديقة القريبة من إسرائيل في آن معاً. انتصار ما كان ليتحقق لولا الدعم التركي العسكري من خلال تزويد أذربيجان بطائرات بدون طيار من طراز "بيرقدار TB2" التي كانت فعّالة في استهداف القوات والمعدات الأرمينية، والدعم السياسي لأذربيجان في المحافل الدولية، بحيث لم تفوّت أنقرة فرصة للتأكيد على "وحدة الأراضي الأذربيجانية". انتصار أذربيجان بدعم تركي في ناغورنو كاراباخ غيّر معادلات القوة في جنوب القوقاز وأبْرَزَ دور تركيا كلاعب إقليمي مؤثّر هناك. ومع صمود حماس في غزة، المحتضنة سياسياً من تركيا عبر إقامة عدد لا بأس به من قياداتها هناك، وعلى رغم استمرار تزويد تركيا إسرائيل بما احتاجته من مواد غذائية وعسكرية أحياناً، غير أنّ التوتّر قد ارتفع بين البلديْن بشكل غير مسبوق، وجاء سقوط الأسد وتولّي الشرع للسلطة في سوريا ليشكّل الشعرة التي قد تقصم ظهر البعير. فعلى الرغم من تواجد جيش الاحتلال على بعد ٢٨ كلم من دمشق والتنسيق مع الأكراد، ومحاولة احتواء الدروز في سوريا، تبدو تركيا أكثر تقدمّاً وفاعلية بما لا يقاس هناك.
في مقال كتبه مايكل والش على صفحات آسيا تايمز، حذّر الصحافي من خطر اندلاع حرب تركية-إسرائيلية، إذ قدّم سقوط النظام السوري فرصة حقيقية للقوات التركية لمهاجمة القوات الكردية المدعومة أميركياً وإسرائيلياً في شمال شرق سوريا. غير أنّه من البديهي أنّه في غياب دعم من الولايات المتحدة، لن تتمكن القوات الكردية المتحالفة مع واشنطن من الصمود أمام هجوم شامل من القوات المسلحة التركية وهيئة تحرير الشام إلى الفصائل السورية المتحالفة مع تركيا.
في هذه المرحلة، يصعب تصوّر إمكانية اندلاع صراع عسكري بين تركيا وإسرائيل غير أنّ هناك خيارات عديدة للمواجهة بين الطرفيْن، أوّلها وأسهلها تقديم الدعم السياسي والعسكري والاستخباراتي لقوات سوريا الديمقراطية لتمكينها من توسيع أراضيها وحضورها ما يستدعي مواجهة غير مباشرة عبر الموساد والتشكيلات. كما قد تعمل إسرائيل على زعزعة قبضة الشرع على سوريا في محاولة لإلهاء تركيا عن مهاجمة الأكراد بشكل ساحق وتحريك السويداء إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
كل ما سبق يؤشر إلى احتدام التنافس الذي قد يبلغ التنازع، ولو آجلاً، بين قوة إقليمية متجذرة هي تركيا وقوة إقليمية مصطنعة الحضور هي إسرائيل، إلى ذلك الحين سيعاد تشكيل خريطة التحالفات الإقليمية بحيث تكون المملكة العربية السعودية بيضة قبان، وتكون إيران دولة ذات تأثير أقل لكن ليس من دون فاعلية.