في اليوم الستين، استنفر الجنوبيون بعدما طال انتظارهم للعودة إلى حضنهم الأول، أرضهم. طرقات الجنوب الممتدة من صيدا حتى آخر الشريط الحدودي عجّت بمواكب الأهالي. سيارات أصحابها وجوههم شاحبة ومتهالكة، وأخرى متوهجة، يحملون الأعلام والصور. وجوهٌ ممزوجة بالحزن والفرح، عيونٌ تخبئ دموعًا خلف الابتسامات، ونفوسٌ معلّقة بين الذكريات والآمال.
على طول طرق القرى الحدودية الخراب يروي قصته بصمتٍ رهيب. بيوتٌ سُوّيت بالأرض، وأخرى "على إجر ونص"، وركامٌ متناثر كأشلاء ذاكرة. نادرًا ما تصادف بناءً صامدًا نجا من آثار الحرب. حتى السيارات المهجورة على أطراف الطرق لم تسلم. ومع ذلك، أصرّ أهالي الجنوب على العودة، وكأنهم يعلنون تحديهم للعدو، غير عابئين بالتحذيرات الإسرائيلية، مدفوعين بما تبقى من الأمل والإصرار.عيتا الشعب أم المعاركعلى حاجز الجيش اللبناني الذي يفصل رميش عن عيتا الشعب، توقفت المواكب الكبيرة الآتية من مختلف المناطق. أكثر من ألف مواطن مصرّون على العودة إلى بلدتهم رغم التحذيرات والدمار. علت أصوات الأهالي مطالبةً بفتح الطريق، فعاد وفتح الجيش الطريق أمامهم، في لحظة تاريخية عابقة برمزية إصرارهم.بلدة عيتا الشعب، التي شهدت أم المعارك في القطاع الأوسط، استقبلت أبناءها للمرة الأولى منذ انسحاب الاحتلال الإسرائيلي. في مشهد مهيب، دخل الجيش اللبناني بدباباته وآلياته العسكرية، مؤمّنًا دخول الأهالي وحمايتهم، ومعلناً استعادة الدولة لسيادتها على البلدة التي كانت يومًا بؤرة لقوات الاحتلال.لكن الفرح لم يحجب قسوة الواقع. البلدة التي قُصفت يوميًا خلال الحرب، كانت مجرد ظلالٍ من ماضيها. لا يمكن التعرف على معالمها، كما ردد أهالي البلدة. طرقات مجرّفة، مبانٍ مدمّرة، وأكوام من الركام تغطي كل مكان. مخلفات الاحتلال كانت شاهدةً على وجودهم: علب أطعمة فارغة وذخائر متناثرة تُذكّر بالأيام الثقيلة التي عاشتها عيتا.البحث عن أحبائهمرغم صعوبة المشهد، أصرّ كبار السن على الوصول إلى بيوتهم سيرًا على الأقدام، متحدّين وعورة الطريق وصعوبة السير بين الحجارة والأنقاض، وكأنّ خطواتهم المثقلة بالذكريات هي إعلان وفاء للأرض التي احتضنت حياتهم. بين هذا الإصرار، كانت أمهات وأخوة يبحثون بين الركام عن أثرٍ من أحبائهم الذين استُشهدوا، يحملون أي شيء يذكّرهم بهم: قطعة ملابس، إطار صورة، أو حتى حجرًا يحمل رائحة من بقي تحت الأنقاض. كان المشهد يختزل خليطًا من الحزن والشوق والحنين، فيما تعالت الأصوات بعبارات الفخر بمن ضحوا، ذاكرين أنهم يحملون إرث الشهداء على أكتافهم، عائدين إلى أرضهم بفضلهم.في زاوية أخرى من البلدة، كان أبٌ يمشي بخطى مثقلة نحو المكان الذي يعرف أن ابنه استشهد فيه. بعينين غارقتين بالدموع، وبيدين ترتجفان، بدأ بنبش الركام بصمتٍ موجع، وكأنه يحفر في ذاكرة الحرب لاستعادة فلذة كبده. وبعد ساعات من الانتظار والصلاة بصمت، سحب جثمان ابنه من تحت الأنقاض. تلك اللحظة المهيبة، رغم ما حملته من ألمٍ عميق، كانت شهادة أخرى على أن الأرض التي ارتوت بدماء الشهداء، ستظل شاهدة على تضحياتهم، وحاملةً لقصصهم التي لن تُنسى، بحسب رثائه له.وسط كل هذا الخراب، الأهالي استقبلوا بعضهم البعض بالقبل والمواساة، يحاولون لملمة شتات أرواحهم. وسط الركام والبيوت المهدّمة، تعالت النكات التي مزجت الحزن بالسخرية. أحدهم يضحك قائلاً باللهجة الجنوبية: "ليش مسكر اليوم؟"، وأخرى تدعي صديقتها: "تعي نشرب قهوة على البلكون"، فيما يرد ثالث: "بلاقيك بجامع الإمام الحسيني!"، هذا الجامع الذي سوي في الأرض. تلك التفاصيل التي تحمل ذكرياتهم السابقة، وكأنهم يعيدون إحياء البلدة في عقولهم قبل أن يعيدوا إعمارها.وعلى وقع الزغاريد التي مزجت الفخر بدموع الشهداء، ووسط توزيع البقلاوة "حلوينة" خروج العدو وعودتهم، كانت الأجواء أشبه بعرس. كان الفرح يفوق الحزن. كل تفصيل كان رسالة واضحة: العودة، حتى لو إلى أرضٍ جرداء، وأن الأرض، مهما هُدّمت، ستبقى حضنًا دافئًا لأبنائها العائدين.بوجه الدبابة: "نحنا ما مننهار"على مدخل بلدة مارون الراس الحدودية، المطلة على بنت جبيل على الحافة الأمامية، احتشد عشرات الأشخاص منذ ساعات الصباح الأولى. لم ينتظروا وصول الجيش اللبناني لمرافقتهم، بل دخلوا البلدة بأقدامهم وقلوبهم المحملة بالإصرار. ومع تقدم الوقت، زاد عدد الوافدين، خصوصاً بعد وصول الجيش اللبناني ليؤمن تحركاتهم.
هذه البلدة، التي كانت ساحةً ساخنة لمعارك لم تنطفئ آثارها، لم ينسحب منها الجيش الإسرائيلي بشكل كامل. فصل بين الأهالي وقوات الاحتلال ساتر ترابي، وفي الجهة المقابلة، ركّنت دباباته الثقيلة التي بدت كوحوشٍ من حديد، فيما حاول الجنود إخافة الحشود بإطلاق رشقات نارية عشوائية أصابت حوالي تسعة أشخاص. مواجهة غير متكافئة، في الجهة الأولى، قناصة ودبابات وسلاح إسرائيلي فتاك، وفي الجهة الأخرى، الأهالي العُزّل، يقفون بصدورهم العارية.وسط الحشد، رفعت الأعلام الحزبية التي حملت شعاري حركة أمل وحزب الله، وإلى جانبهما علم صغير يحمل الأرزة اللبنانية، يكاد يتوارى. وزّع البعض زجاجات المياه وكعك العباس والمناقيش على المتجمهرين، وآخرون أشعلوا أرغيلةً كما لو أنهم يعيدون الحياة إلى نبضها الطبيعي، فوق بيتهم المهدم، معبرين أنهم سينصبوا خيمة. وفي هذا المشهد الذي يعجّ بالواقعية القاسية، التف شاب وابن عمه حول الساتر الترابي، متسللين نحو البيت الذي استُشهد فيه أخوه. عند وصولهم، وجدوا البيت مهدّمًا بالكامل، ولم يتمكنوا من العثور على الجثمان وسط الركام.حين حانت صلاة الظهر، وقف الحشد في صفوف متراصة، وأقيمت الصلاة وسط الخراب، كأنهم يعيدون الروح إلى أرضٍ أنهكتها الحرب. وبينما كان المشهد يفيض بإصرار الأهالي على أن الأرض لهم، تخطت زهراء قبيسي، المعروفة بـ"نحنا ما مننهار"، الساتر الإسمنتي. تقدمت نحو دبابة الميركافا، غير عابئة بالتهديدات التي تقف أمامها. لحظات قليلة مضت قبل أن تصيبها نيران الاحتلال. بعدها، تدخل الجيش اللبناني واستعادها، وسط صيحات الحشد التي خلطت الغضب بالفخر... وعادت وكررت جملتها الشهيرة "نحنا ما مننهار"، وكانت الدماء تسيل من جبهتها.