منذ الصباح الباكر تجمّع أبناء المنطقة الحدودية أمام المداخل المؤدية إلى بلداتهم. كان المشهد مهيباً. حماسة كبيرة من الأهالي الذين حضروا مع أطفالهم وكبارهم، ليدخلوا عنوة ومواجهة العدوّ الذي لا يرحم.البحث عن الجثامينقرب نهر الليطاني في " قعقعية الجسر"، قريباً من وادي الحجير، تجمّع أبناء بلدات الطيبة، ربّ ثلاثين والعديسة وعدد من أبناء القرى الحدودية المجاورة، اتجهوا نحو منطقة "المعبور" المؤدية الى بلدة دير سريان. قبل الوصول الى بلدة الطيبة، كان الجيش اللبناني قد وضع شريطاً شائكاً لمنعهم من التقدم لكن الأهالي واجهوا قرار الجيش وازاحوا الشريط الشائك وعبروا بسياراتهم ليكونوا من أوئل الواصلين الى المنطقة الحدودية، في بلدة الطيبة تحديداً.هناك كان المشهد مؤثراً، ساحة البلدة والمنازل المحيطة بها دمّرت تدميراً شبه كامل، كان يصعب على العابرين عبور الطريق بسبب الركام. "لقد تهدّمت جميع المحال التجارية، اضافة الى عدد كبير من المنازل" يقول حسن نحلة، ويلفت الى أن " الأهالي الآتين لم يقصدوا منازلهم أولاً، بل تقدّموا باتجاه الأماكن التي علموا أن عدداً من الشهداء تحت ركامها". بدوره يذكر أحمد منصور أن "من بين الذين جازفوا بوصولهم الى البلدة عدد من ذوي الشهداء من خارج البلدة، كانوا يسألون عن أماكن استشهاد أبنائهم. بعضهم بدأ يبحث بنفسه في محاولة لايجاد أثر يدل على من يبحث عنه".في بلدة الطيبة بدأت عملية البحث من الأهالي والمعنيين في المجلس البلدي وغيرهم عن جثامين 43 شهيداً، من بينهم طبيبين، أحدهما الطبيب زهير منصور، ابن بلدة الطيبة الذي استشهد داخل مركز عمله في مركز الهيئة الصحية الاسلامية الذي كان أقرب الى مستشفى صغير يقدم الخدمات الطبية لأبناء المنطقة.فقدت البلدة اضافة الى شهدائها، مئات الوحدات السكنية والتجارية، لكن كما يقول منصور أن "حجم البلدة الكبير وأبنيتها الكثيرة تستوعب الآلاف من الأهالي، لذلك سيعمد المجلس البلدي أولاً الى انتشال جثامين الشهداء وازالة الركام وتأمين كهرباء الاشتراكات كي يتمكن أبناء البلدة من السكن بأسرع وقت ممكن".حولا وميس الجبلفي مدخل بلدة شقرا، باتجاه بلدتي ميس الجبل وحولا، بدأ المئات من الأهالي التجمّع منذ السادسة صباحاً. كان الجيش اللبناني قد وضع الشريط الشائك على الطريقين المؤديين الى البلدتين. حاول الأهالي العبور بسياراتهم لكن الجيش رفض ذلك، محذراً من تعرّضهم للاعتداءات الإسرائيلية. لكن حماسة الشباب حالت دون ذلك. فعبر العشرات الى البلدتين سيراً على الأقدام أو بواسطة الدراجات النارية. كان علي قطيش واحداً منهم تقدّم مع رفاقه باتجاه الوادي، ومنه صعودا على طريق بلدة حولا. أما الأطفال والنساء فكانوا يراقبون هذه المغامرة، وينتظرون فتح الطريق للّحاق بهم. وما هي الاّ دقائق، وبدأت أصوات طلقات النار تسمع من بعيد، ليأتي الخبر عن استشهاد علي وجرح عدد من الشبان. ومن ثم نبأ سقوط شهيدين آخرين وأسر ثلاثة. كان النبأ مفجعاً، لكن حماسة المجتمعين لم تتغير. لقد أذن لهم الجيش بالدخول بسياراتهم، ليتوجه الجميع الى مدخل البلدة الغربي، تقدّموا مئات الأمتار، الى أن بدأ العدو يطلق نيرانه من خلف ساتر ترابي في وسط الطريق. حاول عدد من الأهالي التقدم عنوة، بعضهم استطاع العبور من طريق فرعي لكن جنود العدو استمروا بملاحقتهم وأسر واحد منهم، ولا يزال الأهالي ينتظرون، ويبدو أن الدخول الى وسط البلدة قد يطول.على طريق قلعة دوبية الأثرية، المؤدي الى بلدة ميس الجبل، ترجّل العشرات من الشباب، عبروا سيراً على مسافة تزيد على 2000 متر، ووصلوا الى مدخل البلدة الغربي ومن ثم الى وسطها. كان جيش العدو قد تمركز بدباباته على الطريق العام. قرب بلدة شقرا، كانت مريم قبلان تنتظر مع طفلتيها، الاذن من زوجها الذي سبقها الى البلدة، وتقول "الدخول مغامرة محسوبة، والموت أفضل من مشاهدة صور العدو وهو يدمّر ممتلكاتنا وكأن شيئاً لم يكن، سندخل مع أطفالنا مهما كلفنا الأمر". وتتحدث مريم عن أقرباء لها فقدتهم في الحرب، وتعتبر أن " الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن البلدة وغيرها، لن يقبلوا ترك العدوّ يحتل قرانا".وفي مدخل بلدة ميس الجبل وقف محمد حمدان، أحد تجار البلدة، ينتظر لحظة الوصول الى مكان منزله ومحله التجاري، ويقول "نحن نعلم محالنا ومنازلنا قد تهدّمت، لكننا غامرنا بالعودة من أجل العيش بكرامة وحرية، واعادة بناء ما تهدّم".
دموع حمدان عبّرت عن ألمه. "المصيبة كبيرة، والخسارة فادحة، لقد خسرنا كل أرزاقنا، في البلدة عشرات المحال التجارية الكبيرة التي كانت تؤمن الرزق لمعظم الأهالي، وكانت مقصداً لمئات الزبائن القادمين من مختلف المناطق اللبنانية. وما حصل حرمنا من هذه النعمة" يقول.
بلدة ميس الجبل كانت بمثابة مدينة للمفروشات والأدوات المنزلية، تضمّ أكثر من 250 محلاً تجارياً و30 معملاً للمفروشات، يقصدها الزبائن من كل المناطق اللبنانية وصولاً الى طرابلس والبقاع. كل هذه المنازل تهدّمت أو تعرّضت لأضرار كبيرة، ذنب أصحابها، بحسب حمدان أنهم بنوا محالهم على الطريق العام المحاذي لفلسطين المحتلّة.بنت جبيل ويارون ومارون وعيترونعلى طريق عام كونين - بنت جبيل، كان أبناء المنطقة قد جهزوا حواجز محبّة للقادمين الى بلدات بنت جبيل، يارون، عيترون ، مارون الرّاس وبليدا. في بنت جبيل كان العائدون سابقاً قد فتحوا محالهم التجارية وينتظرون عودة الحياة الى محالهم ومؤسساتهم التي أقفلت لمدة تزيد على 13 شهراً. لكن الدخول الى بلدة يارون كان أمراً معقداً. فقد تمركز العدوّ في مدخلها الملاصق لبنت جبيل، لذلك انتظر الأهالي ساعات قبل السماح لهم بالتقدّم."لم تعد يارون الجميلة بقصورها كما كانت. فالدمار لحق معظم منازلها" يقول ابن البلدة حسن عجاقة. لقد تم احصاء تدمير أكثر من 300 وحدة سكنية، من بينها قصور فخمة كلّفت أصحابها مئات ألوف الدولارات. اضافة الى ملعب البلدة ومسجدها وكنيستها الجميلة والقديمة. وقد طال الدمار منازل المسيحيين والمسلمين الذين اجتمعوا معاً منذ مئات السنين. لكن العدوّ لم يرحم أحداً منا، حاول تدمير كل شيء". ويشير الى أن الضرر والهدم لحق "المدرسة والقاعات العامة والحسينية وغيرها".أما في بلدة مارون الرّاس فان الأهالي تمكنّوا من الدخول عنوة اليها، لكن معالمها لم تعد موجودة أصلاً. فالدمار طال جميع مبانيها ومنشآتها، ليختلط المشهد على زائرها. ومن الصعب معرفة طرقاتها ومعابرها المؤدية الى حديقتها العامة التي كانت تشرف على المستعمرات، والتي كانت ملتقى الأهالي والقادمين من مختلف المناطق اللبنانية. وتضم البلدة مسجداً وقاعة ومطعم وملعب رياضي كبير، اضافة الى مسجد وأماكن مختلفة للعب والترفيه، كلها تهدمت بالكامل.الوصول الى عيترون تأخر كثيراً، رغم محاولة المئات من أبنائها الدخول. فالعدو تمركز في وسطها وعلى تلالها، ومنع الأهالي من التقدّم بعد أن أطلق النيران على عدد منهم، ما أدى الى استشهدا ثلاثة أشخاص وجرح عدد آخر. وعيترون هي البلدة الأكثر اكتظاظاً للسكان في منطقة بنت جبيل الحدودية. ومعظم أبنائها من المزارعين الذين ارتبطوا بالأرض، وعملوا في زراعة التبغ والحبوب وتربية الأبقار والدجاج وغيرها، وفيها أكثر من 2200 وحدة سكنية. وقد لجأ العدوّ خلال الحرب الى تدمير العدد الأكبر منها، والقضاء على شبكات الكهرباء والمياه والبرك الزراعية والبئر الارتوازي واقتلاع وحرق أشجار الزيتون اضافة الى معامل الألبان والأجبان ومزارع الدجاج والأبقار. ويقول خليل حيدر "كان يوجد قبل الحرب حوالي 40 مربياً للأبقار، والعشرات من مربّي النحل وعشرات مزارع الدجاج، نفقت جميعها اليوم، اضافة إلى خسارة المزارعين لمواسمهم المتتالية، وما خسروه من الأبنية والمحال التجارية، ما علينا سوى العودة والبناء من جديد لعلّ الأيام القادمة تحمل معها الخير والرزق الوفير".