بينما كنت أقف بعيدًا عن الحشد في افتتاح معرض فاطمة مرتضى "حياة متخيلة" An Imagined Life، التقطت حديثًا دار بينها وبين زائر بدا مفتونًا بأعمالها. إنها عادة أمارسها في كل معرض ازوره، أنا التي لا تزور المعارض كثيراً، أن أنعزل عن الجمع، بحثًا عن عزلة تبدو لي ضرورية في كل آن، أنا التي تخاف أن يسرق منها صوت الحضور، أصواتها الداخلية أجمع.كان صوتها يحمل مزيجًا من الحنين والتحدي وهي تروي ذكرى بدت وكأنها منقوشة في أعماقها. كطفلة صغيرة، اعتادت أن تجلس بصمت، تراقب والدتها وهي تخيط، مفتونة بالطريقة التي تحوّل بها يداها القماش العادي إلى شيء يحمل غاية، يكاد يكون سحراً.قالت للزائر، بصوت هادئ لكنه حازم: "كانت أمي فنانة بطريقتها الخاصة، لكن القدر لم يمنحها الفرصة لتحمل هذا اللقب. لطالما أردت أن أستعيد هذا الحق الذي حُرمت منه، أن أُنصفها من الحياة التي أنكرت عليها هذا الاعتراف".هذا السرد بدا لي كحجر الزاوية المخفي في أعمال فاطمة مرتضى، تكريمًا ليس فقط لوالدتها بل للفن الصامت الذي غالبًا ما يُغفل، وللإبداع الذي يُنسج في تفاصيل الحياة اليومية. في هذه الحكاية عن التحول والاستعادة، تجد أعمال مرتضى جذورها العميقة. كما تجدها في أبهى حلل لصمت النساء: الحياكة.فاطمة مغرمة بالأساطير، بالقصص التي تتحدث عن الأجساد التي تتحلل لتُبعث من جديد، عن الحياة التي تولد من العدم. وقد تجلى هذا الشغف في معرضها السابق "صعود إنانا Innana Ascends". أما في أعمالها الأخيرة، تظهر مرتضى شغفها بالفلسفة الدائرية، حيث تهمس كل ضربة فرشاة وكل ظل بنهايات تشكل بدايات، بالموت كمقدمة للحياة. ومع ذلك، في قلب مجموعتها الجديدة يكمن شيء أكثر تأثيرًا: الحضور الدائم للطفولة، والطفولة كالبداية والنهاية، حيث لا تظهر كذكرى من الماضي، بل كالحقيقة الوحيدة الحية، حينما كانت المشاعر غير مصفاة، وحين كان العالم لانهائيًا وفوريًا في الوقت نفسه.لوحاتها بالأبيض والأسود تُثير الشجن لكنها تنبض بالحياة عبر الأشكال الصغيرة الملوّنة المنتشرة في أرجائها. هذه الأشكال، التي تستدعي أغاني قديمة، رسوم متحرّكة منسية، وأفلامًا من طفولتها، هي شظايا من عالم يرفض أن يبهت، تمرد على الزمن ذاته.هذه اللوحات تثير تناقضًا ما بين "الطفولة اللعوب" ودرجات الحزن من خلال الأسود والأبيض الذين يذكّران بصورة باهتة أو بذكرى تنزلق إلى أعماق العقل، فيتخللها انفجارات من الألوان "الصغيرة وعلى الهامش"، ككل الحقائق الكبيرة التي تتربص بنا، ملوّنة ومحشورة وحاضرة.هذه الألوان ليست عشوائية. إنها أصداء متعمّدة للبراءة، تكريم للماضي الذي يرفض أن يصمت. في هذه الشذرات، تستعيد فاطمة الطفل بداخلها، وبالامتداد، الاطفال الذين هم نحن، اجمعين.
في كل زاوية من كل لوحة، تقف شخصية من رسوم متحرّكة قديمة بتحدٍ، وكأنها تحرس قداسة الذكريات. في زاوية أخرى، يرقص شكل من اشكال شخصيات الاغاني على قماش أسود، متحديًا جاذبية اليأس. وتكتب فاطمة جملا، بخط طفولي وغير افقي، كذلك الخط "المتعرج" الذي لطالما دفعنا كأطفال، ثمنا باهظا لاتقانه.بالنسبة لمرتضى، الأسود ليس لون الغياب أو الحداد بل هو الحضور الأكثر صدقًا، القاعدة البدائية التي ينبثق منها كل شيء. تقول: "كل الألوان الأخرى ليست سوى استعارات للأسود". هذه النظرة تتردد بعمق، ليس كتشاؤم، بل كاعتراف عميق بإمكانية الأسود على احتواء كل شيء: الطفل والبالغ، الماضي والحاضر، الفراغ واللانهائي.بينما كانت تتحدّث في تلك الأمسية، شعرت أن كلماتها كانت كخيوط غير مرئية تمتد عبر لوحاتها. مثل الغرز التي كانت تراقبها وهي تُحاك من والدتها، تحمل شظايا الحياة والذاكرة والهوية.ماذا عن فيتغنشتاين؟أعمال فاطمة مرتضى ليست فقط استردادًا لفن والدتها غير المعترف به، بل أيضًا تجسيد لفلسفة فتغنشتاين، ولكن مع استطراد شخصي.ومن خلال ملصق ضخم بالابيض والاسود، تخبر مرتضى زائريها، عن فلسفة لودفيغ فيتغنشتاين، وكيف طوّعت هذه الفلسفة في عملها.
يرى لودفيغ فيتغنشتاين الفلسفة كنوع من النقد المتأمل للغة، وليس كهجوم على اللغة نفسها، بل على حدودها. حتى هذه الحدود لا تُدان، بل تُلاحظ بتواضع. في أطروحته السابعة الشهيرة في كتابه "رسالة منطقية فلسفية" يقول فيتغنشتاين: "ما لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، يجب أن نصمت عنه". هذه العبارة تعكس فكرة أن اللغة لا تستطيع استيعاب كل المعرفة. يشير فيتغنشتاين إلى أن الفكر ليس له حدود، في حين أن اللغة محدودة. وعندما تعجز اللغة عن احتواء الفكر، يحلّ الصمت مكانها. وبهذا، تصبح اللغة والصمت أدوات يستخدمها الفكر للتعبير عن نفسه.بالنسبة لفيتغنشتاين، هذا الصمت ليس غيابًا عاديًا، بل هو "صمت لغوي"، أي صمت ينبع من قيود اللغة ذاتها. وهو يردد صدى أفكار مفكرين سابقين مثل ديونيسيوس الأريوباغي، الذين اعتقدوا أن الكلمات ليست الوسيلة الوحيدة للفهم؛ فبعض أشكال المعرفة تتجاوز ما يمكن التعبير عنه بالكلمات ويجب بدلاً من ذلك أن تُختبر في صمت.
تأخذ مرتضى مفهوم "ما لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، يجب أن نصمت عنه" خطوة أبعد، مقدمةً رؤية فنية استطرادية لتقول: "ما لايمكن التعبير عنه بالكلمات، يجب أن يُصنع فنًا"، لتتحول أعمالها إلى جسر، فضاء يُترجم فيه الصمت إلى سرد بصري. لا تتحدث فاطمة عن المستحيل في البوح، بل عن عالم من ظلام نور، داخلي خارجي.الأسود ليس فراغاًتنظر مرتضى إلى فنها على أنه نزوح، رحلة ليست فقط إلى الخارج بل إلى الداخل، إلى جوهر الروح الخفي. تروي أعمالها قصصًا غير مروية، وتربط بين الماضي المتخيل والحاضر الملموس، حيث ينهار الزمن، وتتشابك اللحظات الأولى من الحياة مع الحاضر. وهذا يحاكي مفهوم فيتغنشتاين عن "العرض" (Zeigen)، حيث يصبح الفن وعاءً لما لا يمكن أن يقال. ويعكس استخدام مرتضى للألوان، ولا سيما الأسود، هذه الفلسفة: فاللون الأسود ليس فراغًا أو غيابًا بل هو حضور متعدّد الأوجه، يحمل جوهر جميع الألوان الأخرى. إنه، على حد تعبيرها، "الوجود الأكثر تشتتًا والأكثر تركيزًا"، مجسدًا نقطة التلاشي وأساس الوجود في آن واحد.
يجادل جيجيك بأن الصمت ليس غياب الكلام، بل هو وسيط قوي للتعبير عما لا تستطيع اللغة أن تختزله. بالنسبة لمرتضى، الأسود هو هذه الوسيلة، طريقتها في مواجهة ما لا يمكن قوله وإعطائه شكلاً. وعلى غرار فكرة فيتغنشتاين بأن ما لا يمكن قوله يُعرض، فإن فن مرتضى يُظهر ما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه. فأعمالها أكثر من مجرد تراكيب بصرية، بل هي روايات تنسج الخفي والتاريخي والشخصي في حوار مع المشاهد.
تتحدى فلسفة مرتضى الفنية التصورات التقليدية للصمت واللون. فهي تدعونا إلى رؤية اللون الأسود ليس كاستعارة للنهايات بل كأرض خصبة تتجذر فيها الحقائق الخفية والقصص غير المروية. وفي حين أن الصمت قد ينطوي أحيانًا على التواطؤ، إلا أن مرتضى تحوّله إلى قوة فاعلة للبوح، ومساحة تظهر فيها الصدمات والتواريخ المكبوتة.
ولذا، فإن أعمالها ليست مجرد لوحات بل هي أعمال تحدٍ وشفاء. فهي تعيد النظر في الروايات المسكوت عنها - الشخصية والجماعية - وتمنحها الرؤية. وبذلك، فهي تعيد صياغة تأكيد فيتغنشتاين في المجال الفني، مظهرةً أنه حيثما تتعثر اللغة، يتولى الفن المسؤولية. لتصبح أعمالها شهادة على مرونة التعبير، حيث يندمج الصمت واللون للتعبير عما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه.صناعة الفنبالنسبة لفتغنشتاين، يُعد فعل الإظهار مختلفًا عن النطق؛ إنه كشف لا إرادي، فعل يبرز ضمن عملية الإبداع نفسها. تجسد لوحات مرتضى هذا المبدأ، مما يسمح لأعمالها بـ"الكلام". وكما يلاحظ جيجك، فإن الإخلاص والأصالة لا يمكن الإعلان عنهما – بل يجب إظهارهما. وبالمثل، لا تعلن مرتضى عن قصصها بل تعرضها، بكل ما تحمله من ألم، وصمود، وتعقيد.تدعونا مرتضى إذاً إلى إعادة النظر في الصمت، ليس كغياب، بل كقوة كاشفة، تذكّرنا بأن القصص غير المروية والحقائق غير المعلنة تحتاج إلى وسيط يتجاوز اللغة. وبأن الطفولة هي الشيء الوحيد الحقيقي والثابت. والذي يبعث حيا، كلما فُرشت اللوحة، بالاسود.
"صناعة الفن هي لمحة سريعة عن خبايا جوهر الروح. لا تأخذ الروح في الاعتبار التسلسل الزمني. أول دقيقة من حياتنا مرتبطة تمامًا بحياتنا الآن. لذلك فإن الأعمال الفنية التي تنظرون إليها في هذا المعرض تتكشف عن حديثًا صغيرًا بين الماضي المتخيل والحاضر الملموس..." (فاطمة مرتضى).(*) يستمر معرض فاطمة مرتضى AN IMAGINED LIFE في غاليري "ال تي" LT Gallery، لغاية 31 كانون الثاني.