تتواتر اليوم مفردة "إقصاء" في الفضاء السياسي الذي يُعاد تشكيله بعيداً من الهيمنة شبه المطلقة لحزب الله ومحور الممانعة. ومع أننا اعتدنا مثل هذه الألفاظ التي استُهلكت في شعاراتٍ وسردياتٍ منفصلة عن الواقع، من "المقاومة" إلى "الانتصار"... إلا أن كلمة "إقصاء" تأتي، بعد عقود من التسلّط، ثقيلة الوطأة على الأذُن والفكر العاقل.كسائر اللبنانيين، تهبط مفردة "إقصاء" على مسمعي كظلّ ثقيل تصعب إزاحته، ليس عن السياسة فحسب، بل عن كلّ ما يتعدّاها. فالإقصاء الذي مارسه الثنائي الشيعي، وحزب الله خصوصاً، داخل بيئتهما، لم يقتصر يوماً على السياسة، بل تسلّل إلى كل ما هو شخصي وخاصّ... من العبث بلكنة أهل الجنوب إلى محو هويتهم المحلية، وكل ما بينهما.إقصاء بالوراثةيكبرني حزب الله ببضع سنوات. ولدت في عالمه. عالم يتظلّل بعباءته الأبوية ويحتكم لإصبعه الناهي. لقد اختبرت الإقصاء منذ ولادتي، كإرثٍ ورثته عن عائلة مغايرة لما يسمّى "البيئة الحاضنة". هي بيئة يحتضنها أبناؤها، لا العكس، ومن لا يفعل ذلك فهو منبوذ حتماً. تجربتي هي تجربة فتيات شيعيات كثيرات عشن الاغتراب داخل أحيائهن ومدارسهن، وبين أبناء جيلهن الذي امتصتّه مؤسسات حزبية ودينية وكشفية عملت على تسييسه في عمر مبكر. اضطررنا بدرونا أن نتسيّس رفضاً لممارسات كانت تُفرض حتى على الأطفال، كالحجاب والحرمان من الموسيقى.من مسافةٍ نسبية، شاهدنا رفاق اللعب يتحوّلون فجأةً، وقبل أن تظهر عليهم علامات البلوغ، إلى "مكلّفين شرعيين"، أو "جنود في جيش المهدي"، أو مقاتلين مستقبليين تدعو لهنّ أمهاتهنّ بالشهادة. أما اذا كنّ فتيات، فالصدمة كانت مضاعفة. رأينا وميضاً ينطفئ في عيون رفيقاتٍ لنا، مع إدراكهن السابق لأوانه بأنهم قد أصبحن "نساء". فجأة، تضيق الخيارات ويذوب الخيال الطفولي تحت وطأة الواقع والخيار (شبه) الأوحد، المحسوم سلفاً.ومن مقاعد الدراسة وشوارع الحيّ، بدأت ملامح هذا الشرخ تتكشّف وتغزو المجال العام. ولعلّ أخبث أشكال الاقصاء هي أكثرها نعومة - كنظرة استعلاءٍ أبوية أو شفقةٍ أختية. تحوّلت عيون الأفراد إلى أجهزة رقابية... تراقب حيناً وتوبّخ أحياناً. أما الشفاه، فتتمتم لنا سرّاً بالهداية. وإن لم تفعل التمتمة شغلها، ارتفع الصوت ملوحاً بالمصير البائس الذي ينتظر الواحدة منّا، دون غيرها من فتيات البيئة "الملتزمات" بطاعة الله وحزبه.وبين تمتات وزعيق الجماهير من جهة، والخطاب الرسميّ المكسوّ بهالة من القدسية من جهةٍ أخرى، تمّ إفراغ المجال العام من كل نشاط ثقافي لا يحقّق مآرب سياسية أو دينية. خلت الساحة لحفلات التكليف الشرعي، والمخيمات الكشفية (او دورات تجرّع العقيدة) التابعة لمؤسسات حزبية، وصولاً إلى مجالس العزاء التي يسمح بقيامها داخل حرم الثانويات الرسمية.فائض القوة الناعمةيسألني أحد الأصدقاء عن خلفية موقفي العدائي من"حزب الله". يقول: "معظمنا لا يحبّذ حزب الله، لكني أشعر أنكن، أي المعارِضات الشيعيات، الأكثر جذرية في رفضكن له". أذكّره بأننا "شاهد من أهله". أتحدّث مع صديقاتٍ يملكن تجارب مشابهة. نسترجع الذكريات ونعيد قراءة المواقف والأحداث، فندرك أن موقفنا الراديكالي كان دفاعنا الوحيد في وجه آلة التجنيد التلقائي التي تمّ تسليطها على الأطفال.لم يتوانَ حزب الله يوماً عن إظهار نيته الصريحة في ممارسة هذا النهج بوضوح، وبلا مواربة. فقد أطلق على ذراعه الممتدة إلى النظام التعليمي اسم "التعبئة التربوية"، فضلاً عن استخدامه الأطفال لأغراض دعائية، كما ظهر في تريند "سلام يا مهدي". بهذه الطريقة، فرض حزب الله فائض قوّته الناعمة، فأسدل شادوراً إيرانياً كثيفاً على الثقافات المحلية لأهل الجنوب والبقاع وحتى بيروت. هذا الشادور لم يكتفِ بتغيير الممارسات والطقوس، بل نزع عن وعيهم الجماعي حميميته الأصيلة، وأحلّ محلها الطابع المؤسساتي الصارم الذي يتماهى مع جيشه العقائدي.وفي مقابل التجنيد التلقائي، يحدث الإقصاء الطوعي. فمن لا ينخرط في هذا الجيش بإرادته، كأنّما يستبعد نفسه عن المجال العام، بطوعية مشوبة بالإكراه الخفيّ، كقناعة أطفال في عمر التاسعة بمبايعة الوليّ الفقيه. إنه إقصاء شامل وممنهج، لم يُفرض بقوة السلاح أو تحت وطأة التحالفات والتسويات، بل عبر هيمنة ثقافية مدروسة عملت على خلق مجتمع "متجانس". المفارقة المؤسفة هي أن هذا التجانس لم يكن سوى نسخة ردئية عن ثقافة مستوردة، سوف يصعب التخلّص من رواسبها. على مدى عقود، عمل حزب الله على تعبئة الشيعة، راشدين وأطفالاً، ضمن مشروعٍ سياسي انسحبت نتائجه الكارثية عليهم بشكل جماعي. لم تفرّق هذه الكارثة بين شيعي مُنتمٍ، وآخر مقصيّ، بل جرّت الجميع، سواسية، إلى الهاوية. ومن لم ينعم بنشوة الفوز، فإنه لم يفلت أيضاً من فاجعة الهزيمة. فهل هناك مَن دفع ثمن هذا الإقصاء الذي مارسه الشيعة، أكثر من الشيعة أنفسهم؟