تنشر "المدن" نص الكلمة التي ألقاها رئيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور عزمي بشارة، اليوم السبت، في افتتاح أعمال المنتدى السنوي لفلسطين في دورته الثالثة، الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في العاصمة القطرية الدوحة.
وقد تناول الدكتور بشارة في كلمته، التطورات الأخيرة التي شهدتها القضية الفلسطينية، وأبعاد الصمود الفلسطيني في وجه حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة. وهذا نصها:
احتفت غزة وكل من تعاطف مع أهلها وناصرهم في العالم أجمع بوقف إطلاق النار بعد مفاوضات تطلبت صمودًا أسطوريًا؛ لأن أداة التفاوض الإسرائيلية الرئيسة خلالها كانت الأسلحة الفتاكة. ولعل عدد أسباب الارتياح للهدنة يساوي عدد الجرائم التي ارتكبت طوال ما يُقارب سنة وثلاثة أشهر.
استماتت حكومة إسرائيل لمواصلة الحرب، وعندما استنفدت جميع خدع التملّص من الهدنة وأُسقط في يدها، استغلت كل لحظة منذ الاتفاق، حتى موعد وقف إطلاق النار من أجل المزيد من القتل والتدمير العبثيين. فمنذ لحظة إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة من الدوحة، مساء يوم الأربعاء 15 كانون الثاني/ يناير 2025، حتى بدء سريان وقف إطلاق النار يوم الأحد 19 كانون الثاني/ يناير 2025، زادت وتيرة الضربات الإسرائيلية على قطاع غزة بحصيلة 247 شهيدًا و638 جريحًا.
لا يوجد تفسير عقلاني للرغبة في ممارسة القتل لمجرد أن الفرصة سانحة. والآن تدفع الضفة الغربية ثمن القبول الاضطراري لليمين المتطرف بالصفقة.
وأصر البعض على مواصلة السجال بعد الهدنة بشأن المنتصر والمنهزم في هذه الحرب، والذي لا يمكن أن يخاض إلا إذا أعاد كلٌّ تعريفَ الانتصار والهزيمة على هواه، ما لا يتيح سوى حوار طرشان في فضاء افتراضي.
من نافلة القول أن نذكِّر أنّ الأوضاع في غزة لم تعُد كما كانت قبل 7 أكتوبر، وجلاء الفرق بين النجاة والانتصار يغني عن الشرح.
لقد فشلت إسرائيل في تحرير الرهائن بالقوة، وفشلت في القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، فضلًا عن المقاومة عمومًا. هذه حقيقة. وكان ظهور مقاتلي المقاومة المفاجئ من بين الركام يوم تسليم أول دفعة من الرهائن مدهشًا، مثلما كان صمودهم خلال أطول حرب خاضتها إسرائيل. وظلت المقاومة هي القوة الأكثر تنظيمًا في قطاع غزة، ولم تنجح إسرائيل حتى الآن في العثور على تنظيم مُوالٍ لها سوى عصابات إجرامية تُغِير على شاحنات الإغاثة.
لقد اضطر الاحتلال إلى قبول ما كان مطروحًا ليس منذ أيار/ مايو 2024 فحسب، بل أيضًا منذ بداية عام 2024؛ أي وقف الحرب، وإجراء عملية تبادل أسرى، والانسحاب التدريجي. ولكنها اختارت مواصلة الحرب. وكان هذا القرار مدفوعًا بعوامل سياسية حزبية داخلية، وانفلات هوجة الانتقام والثأر من الفلسطينيين عمومًا. واستندت مواصلة الحرب أيضًا إلى إجماع إسرائيلي على عدم جواز عودة الأوضاع في غزة إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر. وقد تحقق هدفها هذا، وما كان لها ذلك من دون حرب إبادة شاملة. ولم توقف عدوانها بعد أن حققته، لأنها لم تمتلك تصورًا قابلًا للتحقيق لإدارة غزة بعد الجينوسايد. واضطرارها إلى التوقف دون ذلك لا يعني أنها تنازلت عن هدف تشكيل إدارة محلية بمشاركة عربية وإشراف إسرائيلي.
ثمة عوامل أخرى دفعت إلى مواصلة بركان الشر الإسرائيلي نفث حممه على الرغم من تحقيق هذا الهدف. فصنّاع القرار في دولة الاحتلال شعروا بالحصانة في ظل الالتزام الأميركي المطلق بدعم إسرائيل، والإدانات اللفظية والتظاهر العربي الرسمي بالعجز. وأصبحوا قادرين على اختبار تأثير المثابرة في استخدام آلات الدمار من دون وازع وتداعياتها الممكنة على فلسطين والمنطقة. فقررت تجويع غزة واتباع سياسة الأرض المحروقة فيها، ونسف منجزات الحركة الأسيرة في السجون، وتكثيف الاستيطان وقمع السكان في الضفة الغربية وإرهابهم.
لقد كانت الولايات المتحدة وإسرائيل ضالعتين في ترتيب إقليمي استراتيجي واسع النطاق يشمل دولًا عربية، فأفسدته المقاومة، ومن هنا جاء حجم الائتلاف الذي واجهها.
واتّضحت خلال هذه المواجهة صحة فرضيتين سبق أن تطرقتُ إليهما في بداية هذه الحرب، هما: أولًا، توقع أسوأ السيناريوهات بعد 7 أكتوبر. ثانيًا، أن ما بعدها لن يكون كما قبلها، على المستوى الإقليمي، وليس الفلسطيني فحسب. ولا عجب، فالرد الإسرائيلي كان الحرب شاملة، وكان الدعم الأميركي مطلقًا، وانتظر البعض في النظام الرسمي العربي أن يؤدي رد الفعل الإسرائيلي إلى القضاء على المقاومة الإسلامية.
والمقصود بتوقّع أسوأ السيناريوهات هو قرار إسرائيل تحويل حرب ثأرية انتقامية معنونه بـ "الدفاع عن النفس" إلى حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وقد انحطت الحرب، بعد اختبار ردود الفعل الدولية والعربية بعد كل جولة من جولاتها، وصولًا إلى الشعور الإسرائيلي بمطلق الحرية لناحية استخدام وسائل القتل والتدمير بمثابرة جعلت "العالم" يعتاد حتى على الهوس الإسرائيلي في قصف المدارس والمستشفيات ومظاهر السادية، والإمعان المقصود في تجاوز المحظورات.
وفي موضوع الدفاع عن النفس، اسمحوا لي باقتباس فقرات من مقدمةٍ كتبتُها لكتاب سوف يصدر قريبًا، إن شاء الله، ويتضمن ترجمة كاملة لمجريات محاكمة إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية؛ تناولتُ فيها إشكالية وجوب إثبات النية، أو القصد لكي يثبت ارتكاب الجينوسايد:
إن أي تحديد للنية في عمليات الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال ضد السكان الأصليين لا يمكنه البقاء حبيس الفقه القانوني وتجاهل التاريخ والثقافة. وثمة ثلاثة عناصر رئيسة لا يجوز تجاهل تأثيرها في تشكل نية الإبادة الجماعية في الحالة الإسرائيلية، ويمكن بسهولة فحص العلاقة بينها وبين تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الداعية إلى الإبادة، والتصرفات والجرائم الواسعة النطاق خلال الحرب: 1. العنصرية والنظرة الفوقية للسكان الأصليين كمجموع (ازدراء ثقافتهم، الاستخفاف بهم، إنكار وجودهم بوصفهم شعبًا، وأيضًا بوصفهم شخصيات فردية)، بما يمكِّن من التعايش مع الحلول محلهم بعد طردهم، وتقبُّل واقعٍ من قبيل تجميعهم في منعزلات محاصرة مثل غزة. 2. تبرير الانتقام الجماعي منهم لأنهم ليسوا أفرادًا أو تنظيمات، ولا شعبًا، بل هم جماعات متخلفة يجب معاقبتها جماعيًا. 3. الشعور الإسرائيلي الدائم بعدم الأمان، الكامن في الوعي واللاوعي، والناجم عن الجمع بين القناعة الدفينة باستحالة تقبّل السكان الأصليين للمستوطنين وكيانهم السياسي من جهة، والآراء المسبقة عنهم من جهة أخرى، إذ يصعب قيادة الناس إلى تنفيذ جرائم واسعة النطاق أو التواطؤ معها والسكوت عنها من دون شيطنة الآخر و/ أو نزع صفة الإنسانية عنه جماعةً.
وحين تقرع طبول الحرب وتدفع السلطة الحاكمة جنودها إلى الرد على عملية بحجم 7 أكتوبر ضد قطاع صغير ومحاصر ومكتظ بالسكان، وتصدر عن مسؤوليها تصريحات بأن الحرب لن تُميّز بين المقاتلين والمدنيين، فإن توفر العناصر الثلاثة أعلاه في الثقافة السائدة تكفي للدلالة على أن تصريحات القادة الإسرائيليين ليست مجرد فلتات غضب، بل تُفهم شعبيًا بوصفها نيةً بالإبادة.
قد تكون الإبادات الجماعية مدفوعة بحالات مَرَضيّة من الدفاع عن النفس. الباعث في هذه الحالة هو مسخٌ لفكرة الدفاع عن النفس ضد خطر وهمي أو حقيقي. وزاوية النظر هذه قد تضيء على زوايا مظلمة في دوافع مرتكبي المجازر وعنصريتهم المتواشجة مع الخوف من الآخر. ويمكن أن تحل محل ذلك أيضًا الحسابات الباردة لدى عديمي المشاعر الإنسانية، من جهة، وجنون الدم، من جهة أخرى؛ أي الانجراف في القتل إلى درجة تجاوز الذات التي تتضمن الضمير والمحاذير الأخلاقية والانفصام عنها.
يهيمن على الثقافة السياسية الشعبية في إسرائيل هوس الأمن العصابي، ما يسهل تقبُّل فكرة الخطر الوجودي التي تبثها السلطات الحاكمة. لأسباب مختلفة؛ مصدر هذا الهوس قائم في تاريخ الاستعمار الاستيطاني، وفي إنكار الجريمة وتجريم الضحية، وتغذية الخوف بأفكار نمطية عنصرية عن العرب والمسلمين تصل إلى حد النفور الجسدي، الذي يسهّل تقبّل قتل العرب والمشاركة فيه.
ولا تُلحظ دائمًا لحظة الانتقال من الخوف والانتقام إلى الغطرسة والتعبير عن السرور طردًا للخوف عند القيام بعمليات التدمير، والاغتباط بالقوة واسترداد الرجولة التي، وفقًا للإيثوس الصهيوني، لم تتوفر لدى يهود المنفى الذين سيقوا إلى المحرقة. ومن هنا أيضًا تأتي ضرورة التركيز على المحرقة؛ ليس لابتزاز التعاطف العالمي وتحويل الجاني إلى ضحية فقط، بل أيضًا لإثارة الخوف من الخوف، وضرورة تجاوزه بسحق الآخر. وقد وصل باحثون غربيون إلى نتيجة أن مصطلح جينوسايد لا يشمل ظواهر مثل الزَّهو أثناء ممارسة حرب الإبادة، وتباهي جنود إسرائيليين أمام كاميراتهم الخاصة، واستمتاعهم المنحرف بالقتل والتدمير.ومع الأهمية المعنوية والسياسية للدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل لإدانتها بالإبادة الجماعية بموجب "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" المُلزِمة، فإن القانونيين مضطرون إلى الانشغال بتعريف الجرائم بدلًا من مكافحة الجرائم نفسها، بحيث تدور المرافعات حول تعريف الجرائم التي ترتكبها إسرائيل؛ أهي جرائم إبادة جماعية، أم "مجرد" جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟ مع أن "مسؤولية الحماية" Responsibility to Protect (المشار إليها عادة بالمختصر “R2P”)، التي أقرّتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في مؤتمر القمة العالمي لعام 2005، ملزمةٌ لجميع رؤساء الدول والحكومات، ليس بحماية الشعوب من الإبادة الجماعية فقط، وإنما تشمل هذه المسؤولية الحماية من جرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية أيضًا.
ولكن لا هذه ملزمة فعلًا، ولا قرارات المحكمة الدولية، التي يُفترَض نظريًا أنها ملزمة في حالة الإبادة الجماعية. الفرق بين الاستشاري والملزم في القانون الدولي المفتقر إلى السيادة في غياب دول قادرة على تنفيذه وراغبة في ذلك هو فرقٌ معنويٌ لا غير. والدليل هو أن إسرائيل لم تنفذ التدابير التحفظية التي أمرت محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني/ يناير 2024 إسرائيل باتخاذها، ما اضطر حكومة جنوب أفريقيا إلى العودة إلى المحكمة عدّة مرات، وذلك في 16 شباط/ فبراير 2024، وفي 6 آذار/ مارس وفي 10 أيار/ مايو، لأمر إسرائيل بتنفيذها. كما توجهت في 29 أيار/ مايو من العام نفسه إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لأنه ليس في حوزة المحكمة أدوات تنفيذية. وعلى الرغم من احتفائنا بقبول المحكمة الدولية وجود أساس معقول لبحث تهمة الإبادة الجماعية ووضع إسرائيل في قفص الاتهام بجريمة الإبادة تحديدًا، فإن التدابير الاحترازية المطلوبة ريثما تقرر المحكمة، أكانت الحرب الإسرائيلية إبادة جماعية أم لا، لم تطبَّق، بل واصلت إسرائيل اقتراف جرائمها في قطاع غزة حتى يوم وقف إطلاق النار.
على المستوى الفلسطيني، كان الشعب الفلسطيني موحّدًا خلال الحرب، وصمد الشرخ بين الفصائل الفلسطينية بلا حرج أو وازع من ضمير حتى في أثناء حرب إبادة تُشن على الشعب الفلسطيني. وما دامت حتى المعاناة الفلسطينية خلال هذه الحرب عاجزة عن الإقناع بالوحدة، فهذا يعني أن الأمر ميؤوس منه تمامًا. ليست هذه القيادات الفلسطينية قادرة على تحقيق الوحدة الفلسطينية بسبب تضارب المصالح المنفصلة عن المصلحة الوطنية، ولا يوجد سقف يُظلِّل التعددية السياسية الفلسطينية، ولا قاعدة مشتركة تقف عليها. لقد جرت عملية تصفية منهجية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي مستمرة منذ أكثر من عقدين. وثمة معارضة رسمية شرسة لإحيائها.
وفي ظل فوضى المعايير وبلبلة المفاهيم ينفسح المجال لأن يوجِّه من يهمّش منظمة التحرير ويفككها ويحولها إلى مجرد تسمية بلا مسمى أصبعَ الاتهامِ إلى كل من يدعو إلى تفعيل المنظمة، بأنه يريد خلق بديل منها. وفي غياب كيان وطني جامع، سواء أكان دولة أم منظمة، ليست الخلافاتُ تعدديةً يجمعها إطار أو تظللها قضية، بل هي حالة تشظٍ وتضاربُ مصالحَ، وصدعٌ مزمنٌ لا يرأبه تبادل القبلات والكلام المعسول، ولا تعمقه الهجائيات المتبادلة. لقد وصلنا إلى وضع ينتظر فيه طرف أن يقضي الاحتلال على الطرف الآخر، فلا تزعه أواصر الانتماء الوطني.
لا يمكن التوسع بما يكفي في سرد تفاصيل الكارثة التي حلّت بقطاع غزة والضفة الغربية أيضًا. وحين يجرّب التفنّن في الأوصاف تصويرها، ينقلب ركاكةً وابتذالًا مكانه البحث عن الإعجاب في وسائل التواصل. المهمة الآن هي العمل على استدامة وقف إطلاق النار، هذه مشيئة الشعب الفلسطيني كله، والانتقال إلى الإعمار؛ لأن هذا هو الطريق الوحيد لتعزير الصمود والحيلولة دون نزوح واسع من القطاع إذا فُتِح المجالُ لذلك، وهو ما تريده الإدارة الأميركية الجديدة. والمهمة الثانية هي منع إسرائيل من التخلص من وصمة الإبادة والحؤول دون قبولها إقليميًا بوصفها دولةً إقليمية مقررة في رسم خرائط المنطقة.
لا نتعب من التذكير بنتائج ترتبت على فعل المقاومة الفلسطينية، وحرب الإبادة الإسرائيلية، وهي إعادة جدولة القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية والإقليمية بعد تهميشها طويلًا، والإلحاح على ضرورة الاستفادة من هذه العودة. ليست الحرب مجديةً في حالة فلسطين، حيث لا ينتهي الصراع إلا بإبادة كاملة للشعب الفلسطيني أو بحلٍّ عادل. وإسرائيل لا يمكنها شنّ حربٍ أكثر همجيةً من الحرب الأخيرة التي بانت حدودها، فلا بدّ إذًا من طرح قضية فلسطين مجددًا.
لقد واجه المستعمرون مأزق "إما... وإما" هذا مرارًا في التاريخ الحديث، حين تجلّى تفوقهم العسكري، وبانت حدوده في الوقت ذاته.
توصيفنا لمواجهة إسرائيل هذا المأزق هو عبارة عن استنتاج منطقي من التجربة التاريخية، وليس حتمية تاريخية. فعهدُنا بالنظام الرسمي العربي هو التغلب على أي منطق، ونأمل أن لا تجد الولايات المتحدة من العرب والفلسطينيين من يعينون إسرائيل على إيجاد مخارج من مأزقها من دون حل لقضية فلسطين.
لا أريد أن أصف مأزق إسرائيل هذا بالإنجاز، فهو نتيجة مترتبة على جدلية الصراع الدائم بين حق القوة وقوة الحق. وهي لا تخرج بنفسها من نطاق الممكن إلى الواقع من دون إرادات سياسية واعية تعيد طرح قضية فلسطين على جدول الأعمال الدولي، ولا تمنح إسرائيل، والولايات المتحدة من خلفها، مهربًا من مواجهة المأزق التاريخي للاستعمار.
ثمة حاجة ملحّة إلى موقفٍ فلسطيني موحدٍ يُصرّ على مواجهة العالم بالخيارات "إما التوجه إلى حل عادل وإما استمرار المأزق"، وهذا الموقف الموحد غير قائم حاليًا؛ ما يتيح المجال لإسرائيل للمناورة دوليًا وإقليميًا وفلسطينيًا لاستبدال حرجها بحرج فلسطيني: فإما إدارة محلية بمشاركة عربية موثوقة إسرائيليًا تحت إشراف أمني إسرائيلي، وإما أن تتواصل الكارثة في غزة مع منع إعادة الإعمار للحثّ على الهجرة؛ وكأن الاختيار بين السيّئ والأسوأ قدرٌ مقدورٌ للفلسطينيين. ويسهم في تحويل المأزق الإسرائيلي إلى مأزق فلسطيني من يستعجل إصدار البيانات برفض لجنة الإسناد الفلسطينية، ثم الإعراب عن الاستعداد لإدارة قطاع غزة حال وقف إطلاق النار من خارج أي توافق فلسطيني.
يمكن أن تعود السلطة الفلسطينية إلى إدارة غزة رغمًا عن إسرائيل وبرضا المقاومة، التي لن تدير غزة، وأعربت عن قبولها إدارة متوافق عليها تتبع السلطة الفلسطينية وعدم رغبتها في الانضمام إلى مجلس وزراء. يكفي هذا لتحقيق نوع من التوافق بدلًا من أن تكون العودة رغمًا عن المقاومة وكأنها استثمار للحرب الإسرائيلية.
على المستوى الدولي
أول ما يلفت الانتباه على المستوى الدولي هو تميّز الموقف الأميركي وبروز عناصره الأيديولوجية التي تتجاوز مجرد انعكاس المصالح الاقتصادية أو الجيو-استراتيجية. لقد بالغت الولايات المتحدة في تبنّي الرواية الإسرائيلية لما جرى في 7 أكتوبر، وكانت مستعدة لتبنّي استخدام إسرائيل المحرقة النازية أداتيًا وتعريفات باطلة لمعاداة السامية وزجّها في الحملة السياسية ضد كل من عارض الحرب العدوانية والدعم المطلق الذي حظيت به إسرائيل. وارتسمت صورة مزرية للإدارة الأميركية السابقة بسبب استعدادها غير المحدود لترديد الأكاذيب الإسرائيلية وتبرير الجرائم والتنكّر لخطاب حقوق الإنسان وتقزيمه في مقابل عملقة "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها" (مع أن حروب الاحتلال لا تعد دفاعًا عن النفس) وكأن الصراع بدأ يوم 7 أكتوبر، وكأن الدفاع عن النفس يبرر الدوس على جميع القيم وارتكاب إبادة جماعية.
كما ظهر انحدار مستوى الكونغرس وتدنّي سوية غالبية أعضائه في استقبالهم أكاذيب نتنياهو بحماس منقطع النظير وانتشائهم الهستيري بادعاءاته تمثيل أبناء النور في وجه أبناء الظلام. تعرّت السياسة من الأخلاق تمامًا من دون أن يرفّ للمسؤولين والناطقين جَفن. وانطبق هذا بدرجات متفاوتة على دول غربية مختلفة أصبحت مستعدة لقمع حرية التعبير في ديمقراطياتها لإرضاء دولة تمارس الجينوسايد وتقيم نظام أبارتهايد في القرن الحادي والعشرين.
هل استنزفت دولة الاحتلال في هذه الحرب استعداد الدول الغربية للنفاق والتنكّر لمفاهيمها نفسها حين تعلّق الأمر بالشعب الفلسطيني؟ ربما استنزفت إسرائيل مصطلحات مثل "الهولوكوست" و"المعاداة للسامية" إلى درجة الابتذال، فقد خاطرت باستخدام إحدى حالات الإبادة الجماعية لتبرير أخرى. وفي المستقبل، حين تستخدم السياسية الاسرائيلية الرسمية المحرقة النازية، سيتذكر الناس الإبادة في قطاع غزة، ولا يمكن تجنب تداعيات من هذا النوع.
ولكن الولايات المتحدة والدول الغربية التي تضامنت مع إسرائيل لن تراجع سياساتها بدافع تأنيب الضمير، وثمّة خطر حقيقي أن يحصل العكس. وهذا ما ينصح به اللوبي الإسرائيلي القوي في واشنطن. وحجّته هي أن النهج الإسرائيلي أثبت نفسه، وأن إسرائيل أحسنت صنعًا في صمّ أذنيها عن النصائح الأميركية خلف الأبواب المغلقة بشأن طريقة خوضها الحرب قطاع غزة. وفي لبنان، اقتنعت الولايات المتحدة بالمنطق الإسرائيلي في تحويل قواعد الاشتباك إلى حرب شاملة ونهجها في الإصرار على إخراج لبنان من دائرة النفوذ الإيراني بعد غزة. والمقصود (بحسب اللوبي الإسرائيلي وحلفائه) هو أن عدم الانصياع الإسرائيلي للتردد الأميركي الناجم عن أخذ مصالح أخرى في المنطقة غير مصلحة إسرائيل في الاعتبار كان عين الصواب، وأن ثمة نُظمًا عربية أميَلُ إلى هذا الحزم الاستعماري، سواء أكان أميركيًّا في العراق في عام 2003، أم إسرائيليًّا في فلسطين ولبنان. يدّعي اللوبي الإسرائيلي وحلفاؤه اليمينيون في واشنطن أنهم أعرف بالميول الحقيقية للدول العربية وأقرب إليها من الليبراليين.
وفي المقابل، كسبت قضية فلسطين أصدقاءَ جددًا في الغرب، تحديدًا على المستوى الشعبي، وأصبحت بعض الحكومات أكثر جذرية في نقد إسرائيل، ولكنّ هذا المكسب على أهميته لا يتحول إلى عامل سياسي مؤثر من دون استراتيجية فلسطينية للاستثمار فيه، وخطاب سياسي فلسطيني وطني ديمقراطي قادر على ذلك.
سوف تحكم الولايات المتحدة في السنوات الأربع القادمة إدارة أميركية يمينية متطرفة تحيط برئيس معتد بنفسه بشدة وتساير نزواته لكي تستغلها. والموقف الثيولوجي الإنجيلي الأصولي اللاعقلاني من إسرائيل هو في صلب هذه العملية، وهو أكثر تطرفًا من اليمين الإسرائيلي. وهو متصالح مع نفوذ أوليغاركيا رجال الأعمال الذين لم يعد نموذج ترامب يثير سخريتهم، بل أصبح يغريهم، ومن هؤلاء من يعاني اختلال شخصية النرجسي NPD.
إن الاعتقاد أن ما يتحكم في الرئيس الأميركي الحالي هو نزوات فقط، وأن سلوكه غير متوقع، والتأثير فيه سهل، هو عبارة عن أمانيّ وأوهام تعوض عن العجز، وسوف يقوم هذا الرئيس بابتزاز العاجزين على صعد مختلفة، ليس هذا هو سياق تفصيلها. صحيح أن لديه نزواته، وأنه يشغل الإعلام بكلام مرسل عارٍ من الصحة، وأنه مهووس بالاعتراف بشخصه وزعامته وقدراته وغير ذلك، ولكن هذا ضمن إطار محدد هو مصالح الولايات المتحدة كما يراها اليمين المتطرف الذي أوصله إلى الحكم، وبصياغة شعبوية تخاطب قواعده. إنها مرحلة خطيرة في الداخل والخارج.
لن يراجع ترامب رئاسته السابقة نقديًا، بل سوف يتعصّب لها، وسيحاول أن ينفذ ما لم يسعفه الوقت ووباء "كوفيد" في تنفيذه، وسوف يصرّ على إنفاذ كل ما اتهم آخرين بعرقلته وإفشاله. سوف يحاول أن يثبت أنه كان على حق في كل ما فعل، وما لم يتمكن من فعله. وفي المنطقة العربية وفلسطين، يعني ذلك العودة إلى ما يسمى اتفاقيات أبراهام بوصفها الحل للصراع.
لقد أصر ترامب على إعلام نتنياهو من هو الرئيس Who is the boss ومن هو المرؤوس في العلاقة بينهما، لأنه أراد النجاح شخصيًا في عقد هدنه توقف الحرب في غزة. ولكنه سوف يعمل على ضم دول عربية إضافية للتطبيع مع إسرائيل في إطار اتفاقيات أبراهام دون حل قضية فلسطين، وسوف يعترف بالمستوطنات والسيادة الإسرائيلية عليها، ولن يفيد تملقه سوى في كف الشر عن المتملِّق شخصيًا، بحيث ينجو، وربما يسمَح له بأن يؤدي دورًا ضمن المخطط الأميركي، من دون تغيير قواعد هذا المخطط. هذه حدود النزوات الشخصية. يرى ترامب ان إعادة إعمار قطاع غزة يفترض أن يجري من منظور التطوير العقاري في منطقة شاطئية، وقد يتطلب ذلك التشجيع على تقليل الكثافة السكانية. والمعنى واضح.
ولكن الرئيس الأميركي ليس قدرًا ولا ظاهرة طبيعية. ولا يجوز التحدث عنه كأنه كُلِّي القدرة، يكفي أن نتذكر أنه يتطرف لفظيًا ويختبر ردود الأفعال ليقيس أفعاله، ويحسب ويتراجع أمام الصمود ويتقدم ويطلب أكثر عند تراجع الطرف المقابل، وأن نتذكر أنْ لا مكان للأخلاق والاستعطاف الأخلاقي في عالمه، فهو يَعُدّ السلطة والثروة هما القيمة العليا، النجاح بلغته، والضعف والعجز هما الفشل، فلا مكان للضعف أمامه. وسوف تظهر معارضات في الولايات المتحدة، وفي كل مكان في هذا العالم. ولا يتسع المجال هنا لتفصيل عناصر القوة في منطقتنا، والتذكير بأن العجز عن استغلالها في مواجهة الابتزاز ناجمٌ عن طبيعة الأنظمة والصراعات فيما بينها، وأن تسوية هذه الصراعات تقلّل فرص الضغط والابتزاز.
الموقف الإقليمي
لقد أحرجت هذه الحرب النظام الرسمي العربي؛ أولًا، بسبب مشاعر التضامن الواسعة مع الشعب الفلسطيني على مستوى الرأي العام في جميع البلدان العربية، وانتشار الإحباط من المواقف الرسمية العربية، والغضب على حلفاء هذه الأنظمة الدوليين، ولا سيّما الولايات المتحدة التي دعمت الحرب الإسرائيلية على نحوٍ مُطلق. ثانيًا، بسبب استمرار الحرب طوال هذه المدة دون أن تتمكن إسرائيل من القضاء على المقاومة الفلسطينية أو أن تحرر الرهائن بالقوة. صحيح أن الرأي العام العربي أيضًا عاجزٌ وغيرُ فاعل ومتسمرٌ أمام الشاشات الكبيرة والصغيرة، وتستهلكه وتستنزف مشاعره وسائل التواصل الاجتماعي وترهاتها التي تمحو الفرق بين عرض القضية واستعراض النرجسية الشخصية، لكن حالة الغضب والاحتقان الشعبي غير قابلة للتجاهل. لذلك عُقِدَت مؤتمرات على المستوى الرسمي أُلقيت فيها خطابات واتُّخذت قرارات جيدة ليست للتنفيذ.
وعلى الرغم من الحرج، استشعر النظام الرسمي العربي باعثَين دفعاه إلى "الصمود" في وجه الغضب الشعبي، هما: أولًا، الحزم الإسرائيلي والإصرار على مواصلة الحرب حتى النهاية، بما في ذلك في لبنان. ثانيًا عدم تزعزع الدعم الأميركي لإسرائيل.
ولم يكن في وسع أولئك المحتارين الذين تتنازعهم الرغبة في القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية، والتخلص من تحالفاتها الإقليمية، وإحراجاتها الموسمية من حرب إلى أخرى من جهة، والرغبة في تخفيف وطأة حرب الإبادة الإسرائيلية تجنبًا لاستغاثة النساء والأطفال من جهة أخرى، إلّا الاعتماد على الولايات المتحدة في إيجاد تسوية لهذه المعضلات والجَسر بين الإحراجات المختلفة.
ثمّة صيرورة جرت وشقّت طريقها بعناد عبر هذه الفوضى، وهي الاندفاع الإسرائيلي غير الآبه بالنصائح الودية الأميركية، ولهاث الإدارة الأميركية خلفه. وبالنسبة إلى السياسي الذي يخلط بين البراغماتية والتحلل من القيم، ثبت في هذه الحرب أن إسرائيل فاعلٌ سياسي إقليمي. وثمّة احتمال أن تقود هذه الصيرورة إلى التحوّل "البراغماتي" من الاعتماد على الولايات المتحدة إلى الاعتماد على إسرائيل في الصراعات الإقليمية، جزئيًا على الأقل.
تعمّقت هذه الصيرورة بإصرار إسرائيل على تحويل حرب الاستنزاف أو الإسناد التي شنّها حزب الله إلى حرب شاملة على المقاومة اللبنانية تَعدُّ لها منذ عام 2006. لقد أعاق خطاب "الانتصار الإلهي" استفادةَ حزب الله وغيره من دروس حرب ذلك العام، وتحليل ردود الفعل الإسرائيلية واستخلاص الدروس والعبر، والاستعداد لما هو آتٍ. وقد قادت سلسلة التفاعلات التي أطلقتها الحرب الأخيرة منذ 7 أكتوبر إلى انهيار محور المقاومة عمليًّا وسقوط نظام الفساد والاستبداد في سورية، الذي كان على شفا الانهيار.
ويُتوقَع أن تتباهى إسرائيل أمام الأنظمة العربية بتخليصها من محور المقاومة، وبإيصال طموح حماس إلى ما هو أقل من العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، وإيران منشغلة بالدفاع عن نفسها في مواجهة تحريض إسرائيلي علني للولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران فتُكمل ما بدأته إسرائيل، التي نهجت لها السبيل. هكذا تعرض إسرائيل الأمور.
ليس بالضرورة أن تستجيب الولايات المتحدة للوسواس الإسرائيلي في حالة إيران. ولكن حتى لو رجَّحنا تفضيل إدارة ترامب التوصل إلى صفقة في ظروف الضعف الإيراني، فإنها لن تكون صفقة تعيد إلى إيران دورها في قيادة محور إقليمي.
وفي انتظار تفاعل رد الفعل العربي الشعبي على شرعنة دور إسرائيل الإقليمي، فإن العامل الأول في التصدي لهذه الصيرورة هو العامل الفلسطيني انطلاقًا من إعادة النظر في استراتيجية المقاومة، من دون التخلي عن مقاومة الاحتلال ونظام الفصل العنصري، وابتداع أدوات نضالية جديدة وخطاب سياسي جديد ديمقراطي يواكب التطور داخل المجتمع الفلسطيني وأجياله الجديدة الصاعدة، وينسجم مع الأوساط الدولية المتعاطفة مع قضية فلسطين ويتمسك بالعدالة المتمثلة بالتحرر من الاحتلال. من دون ذلك، فإنني أرى حاليًّا نفقًا ولا أرى الضوء في نهايته؛ وعلينا، عربًا وفلسطينيين، أن نضيء طريقنا نحو المخرج بأنفسنا.