بعد الانتفاضة الثانية، وفي كانون الأول/ديسمبر2003، وصل إلى مخيم جنين الفنان الألماني توماس كيلبر، ضمن برنامج تابع لمركز غوته. حينها اقترح كيلبر على بلدية المدينة تشييد نصب تذكاري من بقايا المعادن التي خلفها الهجوم الإسرائيلي على المخيم في العام السابق، وهو الهجوم المعروف باسم "معركة جنين". بمشاركة فتيان من المدينة ومخيمها، شيد كيلبر من بقايا السيارات التي حطمتها قذائف الاحتلال وحديد المباني المهدّمة، حصاناً معدنياً بطول ستة أمتار وارتفاع ثلاثة أمتار وعرض متر واحد. وكانت من بين الهياكل المعدنية المستخدمة، قطع من سيارة الإسعاف التي استقلها الطبيب خليل سليمان، مدير مركز الإسعاف التابع للهلال الأحمر، وقد استشهد سليمان أثناء عملية إسعاف داخل المخيم. بعد شهر من العمل، ثُبّت الحصان في ميدان صغير عند مدخل المدينة، وبات يعرف باسم "دوّار الحصان"، ووجه التمثال ينحو صوب مدينة حيفا التي هجّر منها ومن قراها سكان المخيم في العام 1948.يحمل العرض المسرحي الذي قدمه الفنان الفلسطيني علاء شحادة، في مسرح رويال ستارفورد في لندن، الأسبوع الماضي، عنوان "حصان جنين". في عرض لممثل واحد، يمزج بين "الستاند أب" والمسرح الجسدي ومسرح الأقنعة، يقدم شحادة كوميديا جسدية تسرد قصة النصب التذكاري وبعضاً من قصص شظايا الدمار التي صنع منها، وقصة الرحلة الشهيرة التي قطعها الحصان من مخيمه حتى رام الله في موكب يتقدمه جرار زراعي، بينما الجماهير –وتحديداً الأطفال- تستقبله بحفاوة. لكن أيضاً، يبدو العرض في أحد وجوهه عملاً للسيرة الذاتية، وهو يتتبع شحادة منذ ولادته في المخيم إلى يومنا هذا، بعدما انتقل للعيش في بيت-مركب في إحدى قنوات مدينة أمستردام. حياة يتمحور قسط ليس بالهين منها، حول الحصان المعدني، لهو الطفولة على صهوته وقصص حب المراهقة وتعلم التدخين خفية بين سيقانه، ومعان جميعة وذاكرة للمقاومة وللمأساة وللسخرية تتكثف في دوّاره وفي محاولات الإسرائيليين المتكررة لتخريبه.
يعتمد العرض على تقنيات عديدة لاستثارة الضحك، واحدة منها يطلق عليها "الكوميديا الإثنية" والتي تعتمد على تنميطات تتعلّق بجماعة بعينها. يلعب شحادة على التنميطات المتعلقة بالعربي والأخرى المتعلقة بجمهوره الغربي، وعلى الإفراط في تمثيل الاختلاف بينهما. في بداية العرض، ينطلق من التنميطات المتعلّقة بالكوميديا نفسها، ويقول إن عروضه تُستقبل بالكثير من الضحك في فلسطين، بينما تصبح "مثيرة للاهتمام" حين تعرض في مدينة غربية. يسخر شحادة من جمهوره الغربي، مدعياً أنه غير قادر على الضحك، وبالطبع يستقبل جمهوره هذه المزحة بالكثير من القهقهات الطويلة العالية. هكذا تنقلب التنميطات على رأسها، لتفكك نفسها بنفسها. يسخر أيضاً من جمهوره المتحمّس الذي حضر متشحاً بالكوفيات وبأعلام فلسطين، حيث يرجع التفاعل الكبير من جمهوره إلى كونه فناناً رائعاً ولأنه "فلسطيني مسكين" يستحق الشفقة. تنقلب النغمة من الضحك إلى الوجوم وكتم الأنفاس، فجأة تظلم القاعة ويجد الجمهور نفسه في محل جمهور شحادة المجتمع في مسرح الحرية بجنين قبل بضعة سنوات، ويشعل الجمهور اللندني مصابيح هواتفهم لتبديد الظلمة، ويتصورون أنفسهم في محل جمهور المخيم وهو يسمع رشقات إطلاق نار، وخارج المسرح ثلاث جثث راقدة على الأرض. لا يضع هذا المشهد المقبض نهاية للضحك، بل يعود شحادة سريعاً إلى الكوميديا، تاركاً جمهوره معلقاً بين ثقل المأساة وتلك القدرة البطولية على الضحك والإضحاك وسطها وبالرغم منها. في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبعد أسابيع من "طوفان الأقصى"، تقدمت جرافات الجيش الإسرائيلي نحو مدخل المخيم، واقتلعت الحصان من مكانه ونقلته إلى مكان مجهول.