يجهَد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لكبح شراهة المستشفيات على استغلال المرضى، لا سيّما المشمولين بتغطية الصندوق. ومَرَّت عملية الكبح بمحطَّتَين أساسيّتَين، قبل انهيار سعر صرف الليرة وبعدها. في المرحلة الأولى عملت المستشفيات على تضخيم فواتيرها المقَدَّمة للضمان، إن على مستوى كلفة الأعمال الاستشفائية، أو على مستوى إدراج أعمال لم تُجرَ قط. وفي المرحلة الثانية، باتت المستشفيات ترفض استقبال مرضى الضمان، وإن استقبلتهم، لا تلتزم بالتعرفات المحددة، وبالتالي تتقاضى المستشفيات مبالغ إضافية. وهذه الإجراءات، دعت الضمان أخيراً إلى فسخ عقود بعض المستشفيات وإنذار أخرى. لكن ألا يوجد حلّ جذري يضع المستشفيات المستَغِلّة عند حدِّها؟مواجهة مباشرةرغم تأثُّر الضمان الاجتماعي بتداعيات الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في العام 2019، إلاّ أنه بقي متماسكاً محافظاً على تقديماته للمضمونين، وتحديداً في فرع المرض والأمومة. ولتعزيز وضعه المالي، عملت مديرية التفتيش والمراقبة في الضمان على الكشف على المؤسسات وضبط مسألة إعلانها عن أُجَرائها وتسجيلهم في الضمان بكل شفافية وبعيداً من التكتُّم حول أعدادهم ورواتبهم الفعلية، وهذا الأمر أدخَل إلى الضمان مبالغ مالية إضافية. وكذلك كان الضمان سبّاقاً إلى رفض قبول أي تصريح عن الحد الأدنى للأجور لا يتناسب مع الأجور الفعلية، إذ أن الكثير من المؤسسات بقيت تصرِّح عن رواتب وهمية لأجرائها، مستغِلَّة انهيار سعر صرف الليرة. وصولاً إلى اعتماد الحد الأدنى للأجور عند مستوى 18 مليون ليرة.وتعزيز مالية الضمان جعلته يتصدّى بشكل مباشر لمحاولات المستشفيات الخاصة والحكومية، الالتفاف على الضمان عن طريق عدم استقبال مرضاه أو استقبالهم مع تضخيم الفواتير أو تقاضي مبالغ مالية إضافية منهم مباشرة. وفي الوقت نفسه، حرصت إدارة الضمان على انتظام تحويلها المستحقّات المالية للمستشفيات والأطباء، وهو ما جعلها قادرة على الوقوف في وجه المستشفيات المخالِفة، وصولاً إلى فسخ العقود مع 5 مستشفيات وتوجيه إنذارات نهائية بفسخ العقود مع 16 مستشفى.
إلاّ أن هذه المواجهة لا يفترض بها أن تتحوَّل لحلبة صراع دائم بين الضمان والمستشفيات، خصوصاً وأن المرضى هُم المتضرِّر الأكبر. ولذلك لا بدّ من إيجاد حلّ عبارة عن خطة بديلة للضمان يحمي فيها مرضاه، فيما لو أصرَّت المستشفيات على المخالِفة الاستمرار بمخالفاتها.استثمار المستشفيات الحكوميةإصرار المستشفيات على النهج نفسه رغم الإنذارات والتحذيرات المتكرِّرة، يعني أن المستشفيات اتّخذت قرارها بعدم الالتزام بتوجيهات الضمان، وبالتالي لا بدّ للضمان من اتخاذ قرار جريئ يحصِّنه من الخضوع للمستشفيات "التي بمعظمها تتعاطى معه بسياسة الاستغلال ونفخ الفواتير"، وفق تعبير رئيس حملة "الصحة حق وكرامة" الدكتور اسماعيل سكّرية، الذي دعا الضمان خلال حديث لـ"المدن"، إلى تكرار تجربة استثمار مستشفى البترون الحكومي.
وأوضح أن الضمان "استثمر في العام 1974 مستشفى البترون الحكومي التابع لوزارة الصحة. ونجحت التجربة في سنواتها الأولى وبات المستشفى يسمّى AUH الشمال، تشبيهاً له بمستشفى الجامعة الأميركية في بيروت". على أنّ التجربة "بدأت بالتراجع في الثمانينيات بفعل الفساد والتهديدات المبطَّنة التي كانت تصلنا كإدارة للمستشفى".سكّرية الذي كان مكلَّفاً من قِبَل الضمان برئاسة مجلس إدارة مستشفى البترون بين العامين 1993 و1998 أكّد أنّ "نجاح تجربة مستشفى البترون من خلال معالجة المرضى بالتعرفات المعتمدة من الضمان، وتحقيقه أرباحاً مالية، جعلتنا نحضِّر لتوسيع التجربة نحو استثمار المزيد من المستشفيات الحكومية في مختلف المناطق اللبنانية".عودة الضمان إلى التجربة السابقة "بات ضرورياً" بنظر سكّرية، في ظل ما تقوم به المستشفيات من استغلال للمرضى وتجاهل إنذارات الضمان.افتتاح صيدلياتليس استثمار مستشفى البترون وحده ما نجح بالنسبة للضمان، بل إن تجربة استيراد الأدوية وافتتاح الصيدليات في بداية التسعينيات، كان محطّة مهمّة أيضاً. فأوضحَ النقابي أديب بو حبيب الذي كان عضواً في مجلس إدارة الضمان ممثلاً عن العمّال، ونائب رئيس مجلس إدارة مستشفى البترون الحكومي، أنَّ "الضمان استورد أدوية بنحو مليون ونصف دولار، واستحدَثَ ضمن هيكليّته وحدة خاصة بالصيدلة ليواصل الاستيراد".
وأشار بو حبيب إلى أنّ "الأدوية وُزِّعَت على الصيدليات لتباع بأسعار مدروسة، لكن شركات استيراد الأدوية ضغطت لسحب تلك الأدوية من الصيدليات". وكان الإصرار يومها على الاستيراد، نابعاً من أنّ دخول الضمان على هذا المضمار كفيل "بخفض فاتورة الأدوية على المرضى بنسبة 50 بالمئة".وطُرِحَت أيضاً في مجلس إدارة الضمان فكرة "فتح صيدليات في مراكز الضمان، وحينها يشتري المريض الدواء مباشرة من صيدلية الضمان بسعر منخفض، ويتخلّص الضمان بهذه الحالة من إعادة فرق الأسعار للمرضى بعد تقديمهم فواتير الدواء، كما يجري حالياً".
تجربة مستشفى البترون واستيراد الأدوية كفيلة بتحرير قطاع الاستشفاء والدواء من جشع المستشفيات والمستوردين، إلاّ أنّ العقبة الرئيسية تبقى عند النفوذ السياسي الذي عرقلَ تجربة المستشفى، وغطّى ولا يزال، تجاوزات المستشفيات. وعليه، لا بدّ وأن تتحوَّل قضية فسخ العقود مع المستشفيات المخالفة، دافعاً لدى إدارة الضمان للضغط على القوى السياسية علّ الأمور تنتظم بشكل أفضل لما في ذلك من مصلحة للضمان والمرضى.