هناك أوضاع مقلقة في بعض مناطق سوريا، بحيث يكون الخوض فيها موجَّهاً بالدرجة الأولى إلى الجهة القادرة على التصرف بسرعة. ولأن الحديث هو عن السلم الأهلي فالإدارة السورية الجديدة هي المناط بها التحرك وسرعة التصرّف، كي تحافظ على رصيد الثقة الذي اكتسبتْه في الأيام الأولى بعد إسقاط الأسد.المقصود هنا أولاً تلك الأخبار عن تجاوزات وانتهاكات في حق مواطنين أبرياء، أو تلك الأخبار عن تصرفات تمييزية قام بها ممثِّلو الإدارة الجديدة، خصوصاً في حمص وريفها وريف حماة. تبرير هذه الانتهاكات بأنها تصرفات فردية لا يقدّم أي عزاء لضحاياها، بل ينذرهم ويُنذر المستضعفين أمثالهم باستمرار الانتهاكات، طالما لم يُحاسَب أحد من المرتكبين علناً حتى الآن، وبموجب القانون لا وفق أي قصاص غير لائق بدولة معاصرة.
جدير بالذكر، والثناء أيضاً، أن مجمل السوريين المعنيين بمجازر العهد البائد أظهروا مناقبية عالية في التعاطي مع التغيير، ولم تشهد الأيام الأولى أعمال ثأر أو انتقام، ويُسجَّل لعناصر "الهيئة" في تلك الأيام تعاملهم مع الأهالي في مختلف المناطق بحساسية مناسبة. ربما هذه البداية التي فاقت المنتَظَر رفعت من سقف توقعات السوريين المعنيين، لكن كثر منهم لديهم من الواقعية ما يكفي كي لا يشطح بهم الخيال فيستبعدون بالمطلق أعمالاً تتنافى مع السلم الأهلي المنشود.تحصيناً للسلم الأهلي، كان هناك العديد من المبادرات الأهلية أو المدنية، غايتها تبادل الخبرات والتوعية. وكان من الجيد لو سُجِّل فيها حضور لممثلين عن الإدارة الجديدة، كي ينصتوا إلى خبرات الأهالي والمنظمات، وكي يتعرفوا عن كثب إلى شكاوى متضررين لم يجدوا سبيلهم إلى منافذ رسمية تستقبل شكاواهم، أو لم يفكّر البعض منهم في الشكوى أصلاً لأنهم رأى التجاوز من الجهة التي يُفترض بها أن تغنيهم عن التشكّي!
واحد من الأمثلة الاجتماع الذي نظّمته مجموعة السلم الأهلي، والذي انعقد منتصف الشهر في حمص، وقدمت منى رافع في موقع "الجمهورية" تغطيةً له بعنوان "لقاء السلم الأهلي في حمص-محاولات مُتأرجحة بين الأمل والتوجّس"، نقتطف منها هذه الشكاوى من قبل جمهور الحاضرين: عن حوادث الخطف التي لم تتوقف بعد انتشار حواجز تابعة للإدارة، تقول بنان وهي موظفة ثلاثينية تسكن مع أسرتها في منطقة الزهرة: "كل ما يحدث يبدو غامضاً وغير مفهوم، مَن يقوم بعمليات الخطف والقتل إن لم تكن قوات الهيئة؟ ولماذا لا يجمعون السلاح من أيدي الجميع وليس من أيدينا فقط؟ ولماذا لا يسمحون بتشكيل لجان أهلية مُشترَكة لحماية المدنيين؟".أما المهندس تمام السهلة فقال: "إننا نختبئ خلف إصبعنا إذا لم نقل إن هناك توزيعاً طائفياً في الأحياء. يجب مشاركة الأهالي جميعاً من كل الطوائف من أجل سحب السلاح، وأن نعترف بأنه يتم السؤال على الحواجز: إنت سني أو علوي؟". وتسرد الكاتبة حادثة في حمص حيث مرّ بعض الشبان من أحد الأحياء المختلطة على حاجز وسُئلوا عن طائفتهم فقالوا إنهم من السنّة، وعندما نظر العنصر إلى هوياتهم عرف أنهم علويون، فتعرضوا للضرب قبل أن يُترَكوا في حالهم.في مثال آخر، في ريف حمص وحماة قريباً من البادية، حيث من الشائع اقتناء الأسلحة الفردية، نشير إلى شكاوى من أن قوات الهيئة تركت الأسلحة في حوزة السُنّة، وجمعتها من العلويين وغيرهم، مع التذكير بأن أسلحة الحماية الفردية شائعة على تخوم البادية، ولا علاقة لها بالصراع الذي دار في سوريا. في المحصّلة هناك شكاوى من استقواء طائفي على أولئك الذين سلّموا أسلحتهم، ولم يوفّر لهم عناصر الهيئة حمايةً بديلة.
الشكاوى لم تتوقف أيضاً من المبالغة في توزيع ملصقات تدعو إلى الحجاب والنقاب، وأخرى تنذر من شتم الرسول أو شتم الذات الإلهية، وتوزيعها في تحديداً في أحياء غير سُنّية لا يمكن فهمه على محمل عفوي أو بريء. وقد تفاقمت هذه التصرفات، والانتهاكات المُشار إليها جميعاً، بعد مداهمة عناصر الهيئة أحياء ذات غالبية علوية والقبض على المطلوبين من فلول شبيحة العهد البائد، وحتى على غير المطلوبين، إذ أن الهيئة عادت وأطلقت سراح مئات الأبرياء منهم.والإشارة واجبة إلى أن عمليات المداهمة تمت حتى الآن بسهولة وسلاسة تفوق المتوقّع، وقد رافقت العمليات أو تلتها استعراضات للقوة من قبل قوات الهيئة، وهذا مفهوم كرسالة توجَّه إلى أولئك الشبيحة وأمثالهم. لكن سرعة القبض عليهم تشير إلى جانب ثانٍ بالغة الأهمية، هو أن المطلوبين لا يحظون بغطاء اجتماعي يساعدهم على المقاومة، أو على الاختباء من القوات المهاجمة، وذلك ينبغي فهمه جيداً لأنه مغاير لتلك الأفكار الرائجة عن حاضنة اجتماعية لهم.تصاعدُ الانتهاكات بلغ ذروته مع الحملة العسكرية الأخيرة لعناصر الهيئة في ريف حمص الغربي، فبحسب بيان "مجموعة السلم الأهلي" تمكن فريق المجموعة من توثيق 13 ضحية تم قتلهم وهم عزّل، منهم اثنان في قرية "خربة الحمام". أيضاً وثّقت المجموعة انتهاكات من نوع احتجاز أبناء المطلوبين، كوسيلة ضغط على آبائهم لتسليم أنفسهم. أما في بلدة مريمين، فتم بالصور توثيق تعرّض عدد من المدنيين للإهانة والإذلال أمام عائلاتهم، ومنها حادثة لرجل أُجبر على الركوع وضُرب وأهين أمام زوجته وأطفاله. والأخبار من العديد من المصادر الفردية تؤكد على ما ورد في البيان لجهة حدوث تلك الانتهاكات، وفي العديد من بلدات وقرى الريف الغربي المستهدفة بالحملة الأخيرة.
بالطبع، استُغلت هذه الانتهاكات وسوف تُستغل للتهجّم على العهد الجديد، إلا أن معظم أصوات أبناء المناطق التي تكثر فيها الانتهاكات اتخذوا حتى الآن جانب الحكمة والوطنية، وهم قد دعوا من قبل ويدعون باستمرار إلى معالجة الإدارة ما يحدث قبل استفحاله. والمطلوب، حسب هذه الدعوات، موقفٌ حازم من الإدارة تمنع فيه انتهاكات عناصر الهيئة؛ والتي يعطي تكرارها الانطباع بوجود ما هو موجّه ومنهجي. وحرصاً من أصحاب الدعوات على سلطة وهيبة الدولة، اقترحوا مراراً أن تكون هناك لجان تنسيق مع القوات التي تلاحق المطلوبين ضمن الأحياء، من أجل مساعدتها في القبض عليهم وحماية المدنيين الذين لا ذنب لهم. ووجود اللجان يوفّر على الإدارة نفسها جهوداً أمنية تفوق قدراتها، إذ لا يُعقل أن تضع مفرزة لها في كل شارع، أو حتى في كل حي.الآن هناك استحقاقان ملحّان ولهما حساسية كبرى، الاستحقاق المعيشي والأمني. تردّيهما معاً هو بمثابة وصفة لتدهور أمني قد يصعب على الإدارة معالجته لاحقاً، لأن أمثال الذين لا يحظون اليوم بتعاطف اجتماعي قد يحصلون عليه غداً من أناس فقدوا كل شيء. الفرصة لا تزال مواتية للإدارة كي تكسب أولئك الذين ينتظرون إنصافهم، وهم مكسب حقيقي ومستدام بالمقارنة مع أصحاب الرؤوس الحامية في السوشيال ميديا.