ما إن توقفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في 19 كانون الثاني/يناير، حتى بدأ العدوان على الضفة الغربية، وتحديداً على مدينة جنين التي سوّيَ قسم كبير منها بالأرض، وسقط أكثر من 70 شهيداً من أبنائها خلال يومين، بحجة أن فصائل فيها تعتدي على المستوطنين، بينما يسرح هؤلاء ويمرحون بين مدن وقرى الضفة بسلاحهم من دون حسيبٍ او رقيب.
ومن خفايا اتفاق غزة؛ أن تفاهماً حصل بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير المالية المتطرف بتسلئيل سموترتيش، على عدم إنهاء الحرب، وتغيير طريقها فقط كما قال سموتريتش، ونقلها الى الضفة، لضمان بقائه بالحكومة، لأن انسحاب حزب سموتريتش قد يسقط الحكومة، بعد أن استقال منها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ومعه وزيران من حزبه "القوة اليهودية".
الاتفاق إنجاز للدبلوماسيتين القطرية والمصرية، وسُجل في خانة انتصارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو هزيمة سياسية للعدوان الإسرائيلي الذي لم يُحقِّق أهدافه المُعلنة، وفشل في فرض ترحيل الفلسطينيين من أرضهم، كما أخفق في القضاء على حركات المقاومة - خصوصاً حماس - والإسرائيليون انقسموا بين مؤيدٍ لتوقيع الاتفاق ومعارضٍ له، بينما وصف شريك نتنياهو وزير الخارجية جدعون ساعر ما حصل بأنه: خيار بين السيء والأسوأ، لأن الإدارة الأميركية الجديدة طلبت بإلحاح وقف الحرب قبل حفل تنصيب الرئيس ترامب.
برغم حجم الخسائر البشرية الهائلة التي تكبدها الفلسطينيون، وفوق مآسي النكبة المروِّعة التي حلَّت بقطاع غزة من جراء التدمير الهائل الذي أصاب المنازل والمنشآت التي بناها الغزيون على مدى عقود؛ يسجل إنتصار واضح للإرادة الفلسطينية التي بقيت على عزيمتها وعلى قيد النضال. في المقابل، فقد كان واضحاً أن إرادة العدوان الإسرائيلي انهزمت، ولم تحقِّق أهدافها المُعلنة، برغُم الامكانيات الكبيرة التي تمتلكها، إضافة الى الدعم الذي قُدِّم لها من جهات خارجية.
المرحلة الأولى لتنفيذ الاتفاق بدأت، رغم العراقيل الإسرائيلية المتكررة، وتبادل الأسرى والمحتجزين ورفاة المتوفين منهم تسير وفق ما رُسِم لها، كذلك الإمدادات التموينية التي دخلت الى القطاع بعد معاناة أهلة من الجوع والحصار. لكن القطبة المخفية و"الواضحة" في الاتفاق؛ كان إغفاله تفاصيل مستقبل إدارة قطاع غزة، ومن هي الجهة التي ستتولَّى قيادته والإشراف على إعادة الإعمار في المرحلة القادمة. هذا الإغفال يعني بطبيعة الحال بقاء حركة حماس على وضعيتها السابقة، وتسليم ضمني لها بدور مستقبلي، على الرغم من التصريحات الإسرائيلية التي تنفي ذلك بالمطلق. لكن ظهور مقاتلي الحركة بسلاحهم الكامل يشرفون على تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق ويرافقون الرهائن؛ يؤكد هذه المقاربة.
يبدو واضحاً أن الحكومة الإسرائيلية لا تريد تفاهمات فلسطينية-فلسطينية تُحدِّد كيفية التعاطي مع المستقبل في غزة وفي غير غزة، وهي تراهن على الانقسامات لكي تتهرَّب من التفاوض على الحل النهائي، وفقاً لما يراه المجتمع الدولي وهيئة الأمم المتحدة والمبادرة العربية؛ أي "حل الدولتين"، وشركاء نتنياهو من اليمين المتطرِّف يكرهون سماع هذا الشعار، بينما نتنياهو لا يريده، ولكنه يتهرَّب مواربةً من الحديث عنه. وهو يعمل لتعطيل أي توافق فلسطيني، ليكون ذلك حجَّة له للهروب من التفاوض.
وعلى الضفة الأخرى من مشهدية الاتفاق العتيد؛ يرى بعض المتابعين من قادة الرأي، أن إسرائيل تتصرف على قاعدة "أن حماس أصبحت معزولة" بضعف الدور الإيراني، أو تراجعه، وهي على خلاف عقائدي مع دول عربية عديدة، وبالتالي فإن قياداتها الجديدة مُلزمة بأحد الخيارين: إما تغيير نهجها السياسي والدخول الى واحة الحضن العربي بموجب هذا التغيير، أو بقاؤها ضعيفة من دون حليف مُساند لها ويتماشى مع طروحاتها السياسية وطموحاتها العسكرية، وفي الحالتين؛ فإن إسرائيل تترقَّب مآلات المشهد، وتبني عليه، لأنها لا تريد حصول أي توافق فلسطيني من جهة، ولا يضرها بقاء المقاومة ضعيفة من دون مساندين لها، بينما هي تُخطِّط للاستمرار بالتوسُّع والتدمير، وتريد حججاً تُبرر لها أفعالها العدوانية.
يبدو أن رؤية اليوم التالي لإتفاق غزة ضبابية وغامضة، وتحتاج لتوضيحات. وخطة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب في التعامل مع المنطقة – وتحديداً مع الملف الفلسطيني – غير مُعلنة حتى الآن. فهو يقول إنه لا يريد حروباً، ولكنه لم يتحدث بكلمة واحدة عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني المنكوب. ونتنياهو يراهن على عامل الوقت لتغيير القناعات الترامبية، وقال إن سياسته لم تتغيَّر، إنما الإدارة الأميركية هي التي تغيرت، في إشارة واضحة الى خضوعه للأوامر الأميركية التي فرضت وقف حرب غزة، ولكن نتنياهو يتعامل كأن عدوانه على الضفة الغربية شيءٌ آخر.