أسباب كثيرة تدفع الحكومة الإسرائيلية إلى عدم الانسحاب من جنوب لبنان في الفترة المحددة لانتهاء مهلة اتفاق وقف إطلاق النار، واستكمال تطبيقه. المسوّغات التي يسوّقها الإسرائيليون وتحظى بنوع من الموافقة الأميركية، هي أن نشاطهم وعملهم لم ينته في تفكيك مخازن صواريخ وأسلحة حزب الله. علماً أن ما كان مدرجاً في الاتفاق هو أن الجيش اللبناني يتولى تلك المسؤولية. يحاول الإسرائيليون شنّ حملة بأن الجيش لم يقم بالمهمات المطلوبة منه، وأنه لم يقدم بعد على إثبات حضوره ونفوذه في مختلف المناطق، وأن حزب الله لا يزال يرفض الانسحاب وتفكيك مواقعه وإفراغ مخازنه، علماً أن الجيش قد دخل إلى أكثر من 40 موقعاً للحزب، وعمل على سحب الأسلحة منها إلى مخازنه في بيروت.
أكثر من هدف
لا مهلة رسمية لموعد انسحاب الإسرائيليين من الجنوب، فبعض التسريبات لديهم تشير إلى أنهم سيواصلون الانتشار لثلاثين يوماً إضافياً، فيما تسريبات أخرى كانت تحدثت عن البقاء لشهرين إضافيين أي إلى بدايات فصل الربيع، لا سيما أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد حددت بداية شهر آذار المقبل موعداً للعودة المفترضة لسكان المستوطنات الشمالية. بقاء الإسرائيليين له أكثر من هدف، عدا عن الاستمرار في عمليات التفخيخ والتفجير والتفكيك ومصادرة أسلحة وصواريخ. ففي الأيام الماضية بدأت تتكشف حالات تجنيد إسرائيلية لعدد من العملاء في الجنوب، وأي وجود عسكري ميداني يفترض أن يوفر حركة آمنة لهؤلاء العملاء، علماً أن الأجهزة الأمنية ألقت القبض على العديد منهم، وبعضهم دخل إلى إسرائيل وعاد منها وبحوزته أجهزة تنصت وتقنيات متطورة. كما تريد إسرائيل البقاء لأطول فترة ممكنة لتفعيل عمل أجهزة استخباراتها، ولا سيما الشاباك والموساد والوحدة 8200.
تضارب المعلومات والتقديرات
مسألة تأخير الانسحاب كانت معروفة منذ فترة، وقد أبلغ الإسرائيليون قوات اليونيفيل ولجنة مراقبة آليات تطبيق اتفاق وقف النار، بذلك. وهو ما بحثته اللجنة ممثلة بالضابط الأميركي مع المسؤولين اللبنانيين، علماً أن المصادر اللبنانية المطلعة على هذا الملف تشير إلى أن الضابط الأميركي أبلغ المعنيين بأن إسرائيل ستنسحب من القطاعين الغربي والأوسط، فيما ستحتفظ ببعض النقاط في القطاع الأوسط، كما ستحتفظ ببعض الوجود في القطاع الشرقي. وأن الانسحاب من هذه النقاط سيحصل تدريجياً. هنا تتضارب المعلومات والتقديرات. فبالنسبة إلى الجانب اللبناني، بقاء القوات الإسرائيلية سيكون في نقاط بالقرب من مدينة الخيام، وتحديداً عند تلة الحمامص، وجبل اللبونة. كذلك هناك نقاط أخرى في محيط بلدة كفركلا والتي تعتبر محاذية جداً للجدار الفاصل. أما بالنسبة إلى التسريبات الإسرائيلية، فالأمر مختلف، ويتصل بالوجود في نقاط مهمة واستراتيجية، بعضها يدّعي الإسرائيليون أنه يحتوي على أنفاق ومخازن لم يتم العمل على تفكيكها، بالإضافة إلى التمركز في نقاط استراتيجية لجهة إطلالتها ومواقعها المشرفة على ممرات أساسية، قد يستخدمها الحزب لإعادة تعزيز بنيانه العسكري.
في سوريا ولبنان
ما هو أبعد من ذلك إسرائيلياً، لا ينفصل عن استمرار تمركز قوات الاحتلال في سوريا، كما في جنوب لبنان. علماً أن إسرائيل تحاول من خلال هذا الواقع العسكري فرض وقائع سياسية. وقد نقلت رسائل واضحة للبنانيين والسوريين بهذا الصدد، بأنه عندما يتم تشكيل سلطة في البلدين قادرة على ضبط الحدود بشكل كامل، وقادرة على منع انطلاق أي نشاطات عسكرية ضدها، حينها يمكنها التفكير بالانسحاب، على أن يكون ذلك مبنياً على تفاهمات واضحة، إما تفاهمات لفض الاشتباك أو ما هو مشابه لاتفاقية الهدنة أو غيرها، من دون إغفال سعي إسرائيل إلى فرض نوع من السلام. لذلك يشكل الضغط العسكري الإسرائيلي جزءاً من الضغط الدولي الأوسع حول إعادة تشكيل السلطات في البلدين.
كذلك تريد إسرائيل أن تظهر نفسها صاحبة اليد العليا، على الرغم من وقف الحرب على غزة واهتزاز حكومة بنيامين نتنياهو. ولذلك، لا بد لها أن تواصل القيام ببعض التحركات العسكرية سواء في لبنان، أو سوريا، أو الضفة أو حتى غزة في مرحلة لاحقة. وهي لا تزال عند نقطة "تغيير" وجهة الشرق الأوسط.المفاوضات الأميركية هذا بالتحديد ما تراهن عليه إسرائيل مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي تؤكد المعلومات بدء مفاوضات حثيثة بين فريق عمله والإيرانيين للوصول إلى صفقة. ومن بنودها، التفاهم على الملف النووي، الصواريخ البالستية، أي وقف تصنيعها وإنتاجها، والنفوذ الإقليمي الذي يفترض بإيران أن تقتنع بتراجعه. حتى الآن، لا وجود لأي تفاؤل أميركي بإمكانية الوصول إلى اتفاق مع طهران، لأنه في تقديرات الأميركيين، لا يزال الخامنئي يصر على التمسك بالنفوذ وعلى عدم وقف صناعة الصواريخ البالستية. هنا سيمارس ترامب ضغوطاً قصوى على طهران، بينما إسرائيل لا تزال تفضل القيام بعمل عسكري استباقي لضرب المشروع النووي الإيراني. ذلك سيكون له انعكاس وتداعيات على وضع الجبهة اللبنانية، لأنه في حينها لا يمكن لحزب الله أن يقف جانباً، كما أن تل أبيب تريد استخدام الضغط العسكري في جنوب لبنان، لتقديم إشارات واضحة بأنها غير مستعدة للتنازل أو التراجع، لعلّ طهران تتلقف الرسالة.
تبقى الأنظار متجهة إلى ما بعد انقضاء مهلة الستين يوماً، وما الذي سيفعله حزب الله في حال استمرّت الاعتداءات والتفجيرات الإسرائيلية، علماً أن الحزب حاول تحميل المسؤولية للدولة اللبنانية والجيش والجهات الضامنة والراعية للاتفاق، بينما سيسعى الحزب إلى تعزيز التحركات الشعبية والمدنية، من خلال تنظيم مسيرات كبيرة باتجاه الجنوب من قبل الأهالي للضغط على الدولة اللبنانية والدول المعنية والإسرائيليين، وفق مطلب حق السكان بالعودة إلى منازلهم، من دون إغفال احتمال تنفيذ عمليات، وإن اتخذت الطابع الرمزي والمحدود ضد القوات الإسرائيلية، لدفعها إلى الانسحاب، أو على غرار العمليات التي كانت تحصل قبل تحرير العام 2000، على الرغم من أن كل الظروف قد اختلفت، وحتى موازين القوى تغيرت.