نشرت الجامعة اللبنانية خبر فوزها بالمركزين الأول والثاني عن فئة "أفضل بحث علمي" عن الذكاء الاصطناعي، نالته أساتذة من الجامعة في مؤتمر "تحديات استخدام الذكاء الاصطناعي ورهانات المستقبل"، الذي عُقِد افتراضيًا في آذار 2024. عنوان برّاق يعتمد ناشروه على أن القارئ لن يدقق بالخبر، وكيف تسنى لجامعة لا يوجد فيها هكذا اختصاص، نيل جوائز في مجال علمي ما زال حديث العهد ولم تكتشف كل جوانبه بعد. فالقارئ يعرف الجهات التي وزعت الجوائز، والتي تبين وجود روابط بينها وبين جمعيات فاز أعضاؤها بالجوائز، وهو ليس متلق فحسب. يقرأ وفي ذهنه فكرة "المركز" و"الفوز" به، ولا يستفسر عن أي أمر آخر. ما يدفع إلى الشكوك بأن تكون مجرد أخبار وعناوين برّاقة، هدفها التغطية على الأوضاع المزرية التي وصلت إليها الجامعة.
جهة حديثة العهد
ومن خلال عملية التقصي التي أجرتها "المدن" عن المؤتمر والجهات المنظمة يتبين أن الجهة المنظمة هي مركز "الضاد الدولي للتدقيق والتصويب". وهي جهة غير معروفة وحديثة النشأة. ما يضاعف الشك بكيفية تنظيم مؤتمرات كهذه وتوزيع جوائز في مجالات من هذا النوع. تأسس هذا المركز في العام 2021، وهو مسجل في لندن، ويركز نشاطه على الأبحاث العلمية والثقافية والتربوية. والمتعارف عليه أن إنشاء هذه المراكز، والتي نبتت مثل الفطر في السنوات الأخيرة، سهل المنال، خصوصاً وأن كلفة التراخيص القانونية لإنشائها تترواح في بعض البلدان، مثل بريطانيا، بين 500 إلى 1000 جنيه إسترليني فقط. ويمكن لأي فرد تأسيس مؤسسة أو جمعية أو منظمة غير حكومية بعناوين مختلفة. إلا أن الأساس يبقى في مصداقية وموثوقية الجهات ولجان التحكيم فيها، التي تمكنها من تنظيم مؤتمرات وفعاليات، كي تصدر شهادات وتوزع جوائز لها قيمة علمية.الأبحاث ولجان التحكيماستضاف المؤتمر الذي نظمه مركز الضاد مشاركين من حوالي 10 دول عربية، منها لبنان، ليبيا، المغرب، الأردن، سوريا، اليمن، مصر، والعراق، وشهد عرض 27 ورقة بحثية، من ضمنها دراسات قدّمتها باحثتان من الجامعة اللبنانية، هما الدكتورة سمر زيتون والدكتورة ناديا بو فياض، كما يشرح القيمون على المركز. لكن ما يلفت النظر أيضًا هو الاستراتيجية التي يعتمدها مركز الضاد لجذب الباحثين، حيث يتيح لهم فرصة المشاركة مجانًا، وهو أمر يستحق التقدير. لكن، هل هذه المبادرة تأتي في إطار دعم البحث العلمي فعلاً، أم أنها تخفي دوافع أخرى تتعلق ببناء سمعة أكاديمية تُستخدم كغطاء لمصالح شخصية أو تجارية؟رئيسة المركز، فاديا بو مجاهد أكدت لـ"المدن" أن عملية التحكيم تتم وفقًا لمعايير مهنية. حيث تُرسل الأبحاث إلى محكمين متخصصين من المركز والشركاء المتعاونين، والمنتشرين في حوالي 20 دولة عربية، مع إخفاء أسماء الباحثين لضمان الشفافية. يُرسل البحث إلى محكمين، اثنين أو ثلاثة، عبر خطاب رسمي ومن دون الكشف عن هوية الباحث. وبعد تقييمها، تُعاد الأبحاث إلى أصحابها لتعديل الملاحظات التي وضعتها لجنة التحكيم. لكن هذا الأمر يثير الفضول، لأن المركز لم يُكشف عن هوية هؤلاء المحكمين أو خلفياتهم العلمية، ولم ينشر الأبحاث. وهذا أمر أساسي في المؤتمرات العلمية التي تعتمد قواعد صارمة في التحكيم. ذاك أن نشر لجان التحكيم والسير الذاتية أساسي لموثوقية المنتج العلمي. وهنا استدركت رئيس المركز مشيرة إلى أن جميع الأبحاث ستُنشر لاحقًا في المجلة الخاصة بالمركز.ترابط بين الفائزين والجهات المنظمةفازت بالمركز الأول الدكتورة ناديا بو فياض من كلية الإعلام – الفرع الثاني، بينما حصدت المركز الثاني الدكتورة سمر زيتون من مركز علوم اللغة والتواصل التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية. والجامعة اللبنانية سارعت إلى تبنّي هذا الحدث، بوصفه إنجازًا علمياً. فهل الجامعة اللبنانية هي الجهة التي رشّحت الباحثتين للمشاركة في المؤتمر ودعمت أبحاثهما؟ وعلى أي أساس تم اختيارهما؟ وهل دققت الجامعة بالمركز وبنوعية المؤتمر قبل المشاركة؟ أم أن الأمر يقتصر على أن الجامعة استغلت هذا الفوز لتلميع صورتها حيال الفضائح الكثيرة التي تطالها منذ سنوات؟
الفائزة بو فياض أكدت أن مشاركتها أتت بمبادرة فردية ولا علاقة للجامعة بالأمر. وقالت: "المشاركة جاءت من خلال إعلان للأستاذة ريما يونس، مؤسسة الجمعية اللبنانية للتجديد التربوي. وأبدَيتُ رغبتي بالمشاركة، خصوصاً وأنني بدأت الاطلاع على الذكاء الاصطناعي". تقول إنها "بدأت" بالاطلاع على الذكاء الاصطناعي، وهو حديث العهد أيضاً، فهل هذا يؤهلها لنيل جوائز في هذا المجال؟ ورغم ذلك شددت على "أن أهمية بحثها تكمن في تقديم أبحاث تستبق المخاطر المحتملة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم. وهذا النوع من الدراسات يهدف إلى تسليط الضوء على تحديات المستقبل التربوي واستشراف الحلول الممكنة قبل أن تتفاقم المشكلات".
بدورها أكدت زيتون أن المشاركة كانت مبادرة شخصية أيضاً، مشيرة إلى أنها تحرص دائمًا على المشاركة في المؤتمرات العلمية. وشرحت أن بحثها يهدف إلى استكشاف المشكلات المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي في التقييم، وكيف يمكن لهذا المجال أن يُحدث ثورة في العملية التربوية والتقييمية. لكن تبين أن زيتون عضوة في الجمعية اللبنانية للتجديد التربوي المتعاونة مع مركز الضاد أيضاً. وهذا يفتح الباب على شكوك بكيفية توزيع الجوائز على جهات مترابطة بين بعضها البعض. وبمعزل عن نوعية الأبحاث وصرامتها ومدى موثوقيتها، يعوز توزيع الجوائز الشفافية.شكوك حول نزاهة التحكيموحول مدى مصداقية هذه الجوائز والشكوك بشفافية توزيعها بين مؤسسات مترابطة ومتعاونة تشرح يونس، مؤسسة الجمعية اللبنانية للتجديد التربوي: "صنّفنا أربعة أبحاث كأفضل أوراق بحثية من بين المشاركين، بناءً على اقتراح من رئيسة مركز الضاد، فاديا بو مجاهد".وأضافت يونس، الشريكة في تنظيم المؤتمر، أن معايير الفوز وضعتها لجان تحكيم متخصصة، ركزت على تجدد الأفكار وأصالتها، من دون الاعتماد على النقل أو الاستخدام المباشر للذكاء الاصطناعي. وعن فوز بو فياض وزيتون (الأولى تربطها بها صداقة والثانية عضوة في الجمعية) بررت يونس: "تفاجأت بالنتائج مثل أي شخص آخر". وشددت على نزاهة عملية التحكيم بالقول: "لم أسمح لنفسي بالتدخل خوفًا من أي اتهامات، حتى أن بعض المقربين من عائلتي شاركوا في المؤتمر ولم يفوزوا. نزاهة التحكيم كانت أولوية، ولم أفرض أي اقتراحات أو تعديلات على عمل اللجان".