غداة حادثة بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان 1975، تداعى قادة الأحزاب اليسارية والعروبية إلى إجتماع في منزل كمال جنبلاط، لكنهم بسبب إنقطاع الكهرباء، انتقلوا إلى منزل محسن دلول. شاركت في الاجتماع مجموعة بارزة من القيادات البعثية بشقيها البعثي العراقي والسوري، والإسلامية والشيوعية والدرزية الاشتراكية، ومعهم جان عبيد. وأصدرت القوى المجتمعة بياناً طالبت فيه بـ"عزل الكتائب"، وحلّ الحزب، وبرزت عناوين في الصحف العروبية مثل: "إجماع عربي على عزل الكتائب"، "مقررات الجبهة المشاركة في الثورة الفلسطينية: عزل الكتائب سياسياً في العالم العربي ومقاطعة أعوانها وشركائها اقتصادياً ومالياً".
لم يلتزم كمال جنبلاط العزل، وكان يتواصل سرّاً وعلناً مع "الكتائب"، فالتقى بشير الجميل عام 1976. وكما كان متوقعاً "كان للعزل الأثر الأكبر في تحشيد المسيحيين حول الحزب وكشف مدى عجز الحركة الوطنية يومذاك عن فهم النوابض العميقة في الذاكرة التاريخية لشطر كبير من المسيحيين"، كما كتب الصحافي الراحل جورج ناصيف. لاحقاً، انتقد القيادي اليساري السابق فواز طرابلسي، فكرة عزل "الكتائب" وما تركه من أثر سلبي في العلاقة مع المنطقة الشرقية. وانتبه الشيوعي جورج حاوي إلى أنه، بعد توقف الحرب العام 1990، وبدء التفكير في الانتخابات النيابية، وجد مكاناً له في الوسط المسيحي، فكان أول من زار سمير جعجع في بيته في غدراس من أجل المصالحة الوطنية، قبل أن يقع حزبه الشيوعي في حالة "الانعزال الإيديولوجي". وكان عزل "الكتائب" أحد الدروس التي علمت الكثيرين معنى الاقصاء السياسي في المجتمع الطائفي، لكن الكثيرين أيضاً ذاكرتهم مثل السمك، لم يفكروا في التجارب السابقة ولا المحن ولا الدروس، يعيشون نشوة الهيمنة والسيطرة فحسب. وربما إذا قمنا بجردة لمنطق العزل في السياسة اللبنانية، لوجدنا أنه ما من أحد فوق رأسه خيمة في هذا المجال. في التسعينيات هُمشت القوى المسيحية التقليدية من قبل النظام السوري، وكان هناك ما هو أقسى من العزل، ألا وهو سجن سمير جعجع وحل "القوات اللبنانية" والتنكيل بعناصرها، والنتيجة كانت تمددها واندماجها أكثر في الوجدان المسيحي. وبعد وصول إميل لحود إلى الرئاسة العام 1998 حاول اقصاء الرئيس رفيق الحريري، من خلال التضييق على الموظفين المحسوبين عليه وسجنهم، فكان الرد الجارف في انتخابات االعام 2000. وفي العام 2005، أُقصى رفيق الحريري جسدياً، إذ اغتيل في 14 شباط، من قبل النظام السوري و"حزب الله" (دانت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان القيادي في الحزب سليم عياش)، فكان الرد شعبياً في 14 آذار. في هذه المرحلة بالذات حاول بعض الآذاريين من محترفي الطمع السياسي والحصص النيابية، مفاوضة ميشال عون العائد من فرنسا على تسعة نواب، فرفض ليحصد 23 نائباً، وحصل ما سُمي "التسونامي العوني". وفي هذه المرحلة أيضاً، أقصيت المعارضة الشيعية من قبل "الثنائي الوطني" (الشيعي)، واتُّهمت بالعمالة والولاء للسفارات، وهمشتها قوى 14 قوى آذار من ضمن تسويات السلطة والاتفاق الرباعي. أكثر من ذلك، أحياناً يتحول الإقصاء والعزل خطاباً أيديولوجيا توظفه الأحزاب للهيمنة على طوائفها...في العام 2011، أسقط تحالف مار مخايل، أو تحالف حزب الله والتيار العوني، حكومة سعد الحريري، وكانت ثمار التعسف السياسي لمحور المقاومة مزيداً من الإحباط والتهميش والإقصاء في الشارع السني برعاية القمصان السود وبمنطق تمجيد غزوة 7 آيار2008. والحديث يطول في هذا الشأن، من مشاركة "حزب الله" في الحرب السورية، وما حملته من تداعيات، إلى تسوية انتخاب ميشال عون العام 2016 وقيام جبران باسيل بإقصاء "القوات اللبنانية" بعد الاتفاق، أو محاولته الانقضاض على صلاحيات رئاسة الحكومة. وطوال المراحل التي ذكرناها، كان كل ما يخص الشيعة في الدولة اللبنانية، محتكراً من "حركة أمل"، لا يستطيع ناظر مدرسة أن ينضم إلى ملاك الدولة من دون الحصول على موافقة الحركة أو الولاء لها، وهذا ما يسميه حارث سليمان "الإقصاء". ثم وصلنا إلى "حرب الإسناد" وتفرد حزب الله بقرار الحرب والسِّلم، وما حملته الحرب من ويلات. وفجأة، بعد سقوط نظام بشار الأسد، معطوفاً على اغتيال حسن نصرالله، وجد الحزب نفسه محاصراً، وجريحاً بعد حرب دامية، وخاسراً أبرز حلفائه، من جبران باسيل إلى فيصل كرامي، وبات يجد ملاذه الوحيد في شعارات الميثاقية. لم يكن المشهد بمنأى عن التصريحات الاستفزازية، سواء في قول أحدهم إنه يمكن انتخاب رئيس من دون النواب الشيعة، أو في قول حزبي بارز أن لديه فيتو على سمير جعجع في الرئاسة. في الواقع لا أحد يستطيع عزل الشيعة، لكن خيارات حزب الله الحادة، بدءاً بصناعة المعادلات الشرق أوسطية، مروراً بشعار "رئاسة الجمهورية لسليمان فرنجية أو سليمان فرنجية"، أثارت سخرية المعترضين على حرب الإسناد، حتى الفيتو الذي كان على نواف سلام... كلها أمور جعلت الحزب يخلق الإحباط لنفسه ولبيئته، ذلك أنه اعتاد ممارسة السياسة بمنطق الفرض والخضوع والتعطيل والتهويل، منذ انتخاب إميل لحود إلى اليوم...
كان جديرا بالرئيس بري أن يسارع إلى إعادة المشهد إلى نصابه السياسي لا الطائفي، ويعلن أنهم في الاستشارات النيابية حول اسم رئيس الحكومة، طرحوا إسماً (نجيب ميقاتي) وخسر، والأمر لا يتعلق باتفاقات مسبقة كما سوّق البعض. ونعود إلى السؤال ماذا عن الدور الذي أداه كل من حزب الله وحركة أمل في إقصاء أي معارض لهما في الانتخابات النيابية من خلال التضييق الممنهج؟ لم يحتمل الثنائي أن يعلق المرشح علي الأمين صورة في شقرا-بلدته الجنوبية، ولم يسمحوا لأي مرشح قوي في بعلبك. كانت لعبة المنع تحت شعار "الطائفة مهدّدة". لا تختلف الأحزاب اللبنانية الكبرى الأخرى في عمليات الإقصاء والتهميش، لكن الفرق في أنها لا تمتلك إدوات العنف والترهيب.ليس الهدف هنا الشوشرة والثرثرة، بقدر ما هي ضرورة القول بالعودة إلى اللعبة الديموقراطية بعيداً عن منطق التشفي والإقصاء، ذلك أن الأخطاء القاتلة تتراكم، كل مرة، بسبب لعنة الاستقواء المرحلي.