ألقت صحف أميركية وأوروبية الضوء على كيرتيس يارفين بوصفه "عراب التنوير الظلامي" الذي يؤثر بشكل كبير على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعمالقة التكنولوجيا في وادي السيليكون.
ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقابلة مطولة مع يارفين ومقال رأي يتناول أفكاره قبل أيام، فيما نشرت صحيفة "غارديان البريطانية قبل نحو شهر بروفايلاً إعلامياً عنه مع تكرار ظهور اسمه في تصريحات ترامب ونائبه جي دي فانس بوصفه صديقاً وحليفاً، كما تناولته صحف ووسائل إعلام في فرنسا وألمانيا ودول أخرى، بسبب موقفه المناهض للديموقراطية.يارفين هو رجل أعمال سابق في مجال التكنولوجيا، وأحد أكثر المفكرين تأثيراً في اليمين المتطرف على ضفتي الأطلسي بوصفه عراب الأيديولوجية الجديدة التي أطلق عليها اسم "التنوير الظلامي" التي تدعو إلى نهاية الديموقراطية في العالم. وقال في مقابلته مع "نيويورك تايمز": "أنا لا أؤمن بالحق في التصويت" وأعتقد أن "الديموقراطية ضعيفة وعفا عليها الزمن" متحدثاً عن أن العبودية لم تكن نظاماً سياساً سيئاً وعن إعجابه بدكتاتوريين مسؤولين عن مقتل ملايين الأشخاص عبر التاريخ، مع تقليله من حقوق النساء بالقول أن النساء في روايات جين أوستن كن على ما يرام، وهي تصريحات قد تبدو صادمة لكنها تتوازى مع تصريحات مماثلة من ترامب نفسه ومن حليفه أيلون ماسك الذي يتهمه الاتحاد الأوروبي بمحاولة زعزعة الديموقراطية بدعمه للنازيين الجدد واليمين المتطرف في دول مثل ألمانيا.ويريد يارفين إنشاء نظام ملكي في الولايات المتحدة أو على الأقل إدارة الدولة مثل "شركة" على غرار تجارب مثل سنغافورة، وهي دولة صغيرة تتألف من مدينة واحدة، ووصفت صحيفة "غارديان" هذا "الرجعي الجديد" على أنه "المدون صاحب الأثر الكبير على فترة رئاسة دونالد ترامب الثانية"، حيث أشار له واقتبس منه كثيرون من المحافظين والمتطرفين المحيطين بترامب، من نائب الرئيس جي. دي. فانس والمستثمر الملياردير مارك أندريسن والمذيع تاكر كارلسون وإيلون ماسك نفسه.ويمكن ملاحظة صدى أفكار يارفين بوضوح، في التحركات القانونية التي اتخذها ترامب ضد المنتقدين له في وسائل الإعلام، ووعود إيلون ماسك بخفض الإنفاق الحكومي إلى الحد الأقصى، والهجمات ضد الأقليات والمهاجرين، هي من بين التدابير التي تقتدي باستراتيجية يارفين الداعية لتفكيك الديموقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة.وفي كتابه الصادر العام 2020 بعنوان "المخاطر" حدد يارفين "القيصرية" الاستبدادية كوسيلة لحل الانحطاط الأميركي. وعرف القيصرية بأنها "شكل من أشكال حكم الرجل الواحد: في منتصف الطريق بين الملكية والاستبداد". وقال أن "القيصرية ليست طغياناً، أي نظام يغتصب حكومة شرعية وفعالة" بل إنها تطبق "حكماً استبدادياً لرجل واحد يكتسب شرعيته جزئياً بالضرورة" ويعني ذلك "انهيار الحكم الجمهوري الدستوري" لأن "الأمة التي لم تعد قادرة على حكم نفسها يجب أن تُحكم بالقوة".وكان ترامب صرح خلال حملته الانتخابية الأخيرة بأن هذه الانتخابات سوف تكون الأخيرة في البلاد عندما دعا المسيحيين والمحافظين إلى دعمه، ما أثار انتقادات شديدة حينها، وفيما كانت أفكار يارفين تبدو خيالاً بعيد المنال قبل عدة سنوات، يبدو اليوم أنها باتت السياسة الرسمية لإدارة ترامب على كافة الأصعدة، فيما دعا يارفين لإغلاق الجامعات والصحف وفرض سلطة الأمر الواقع. وفي العام 2022، قال نائب الرئيس جي دي فانس لمجلة "فانيتي فير" : "أميل إلى الاعتقاد بأننا يجب أن نستولي على مؤسسات اليسار ونحولها إلى ضد اليسار. نحن بحاجة إلى برنامج لاجتثاث النهضة الاجتماعية وبرنامج لإزالة تيار اليقظة". وقال لاحقاً أن المحافظين لن يستطيعوا فرض عقيدتهم على أميركا إلا من خلال ضرب قلب الوحش، أي الجامعات.وبحسب شبكة "فرانس 24" الفرنسية، طبعت هذه الأيديولوجية البناء اليميني الترامبي المتطرف. وقال هاريسون سميث، أخصائي الوسائط الرقمية في "جامعة شيفيلد" عندما كتب عن تأثير هذه الأيديولوجية: "هذا المفهوم ومفهوم الرجعية الجديدة قابلان للتبادل إلى حد ما. فهما يشيران إلى عقيدة غير ديموقراطية ومعادية للتقدمية تقترح التخلص من الديموقراطية لإدارة الدولة كشركة يتربع على رأسها رئيس تنفيذي بالصلاحيات نفسها التي يتمتع بها ملك مطلق".من هنا يمكن فهم مصطلح "التنوير الظلامي" بوصفه انتقاداً مبطناً لفلسفة التنوير في القرن السابع عشر الميلادي، والتي روجت لتقييد سلطات الملك. ومنذ وقت طويل الآن يحاول يارفين تمرير وصفاته الأيديولوجية. بداية عبر إخفاء هويته جزئياً لأنه قبل بضع سنوات، كان يتواجد فقط في أركان قاصية من الويب حيث يوجد أشخاص يعقدون المناقشات والمناظرات داخل تجمعات متخصصة في "تويتر" أو "رديت"، حسبما أوضح جوشوا فاريل مولوي، المتخصص في التطرف عبر شبكة الإنترنت في "جامعة مالمو" السويدية.وفي العام 2000، في بداية مسيرته المهنية بوصفه "مفكراً سياسياً"، لم يظهر يارفين حتى تحت اسمه الحقيقي عبر الإنترنت، بل أطلق على نفسه اسم "منسيوس مولدبوغ". تحت هذا الاسم المستعار، وراكباً موجة ثقافة الإنترنت ورَّث يارفين فكرتين من أكثر الأفكار التي ميزت حركة أقصى اليمين داخل اليمين المتطرف، حيث كان أحد مخترعي المفهوم السياسي "الحبة الحمراء"، في إشارة إلى فيلم "ماتريكس" الذي يبتلع فيه الممثل كيانو ريفز "الحبة الحمراء" ليستيقظ بعدها على الواقع الحقيقي للعالم وكونه "مصفوفة" محبوس البشر بداخلها. ومثل شخصية نيو (كيانو ريفز)، يقسم المتشددون من أقصى اليمين المتطرف بأنهم الوحيدون الذين يرون العالم على حقيقته.كما أشاع كيرتيس يارفين مفهوم "الكاتدرائية"، الذي يشير إلى تحالف مزعوم بين وسائل الإعلام التقليدية ونخبة أكاديمية تعمل على فرض أيديولوجية تقدمية على الأميركيين. وهو ما يلاحظ اليوم في موجة العداء للإعلام وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة بوصفها مؤامرة، وكل ذلك جعل يارفين يحظى بلقب "نبي وادي السليكون الرجعي الجديد".وبالاعتماد على ثقافة ذكورية مسيطرة في وادي السيليكون، قام يارفين بإغواء عمالقة التكنولوجيا مثل إيلون ماسك إلى مارك زوكربيرغ وجيف بيزوس ممن باتوا يتباهون اليوم بتقديم صورة ذكورية وعنيفة عن نفسهم، مع الحديث عن ضرورة تطوير التكنولوجيا من دون إشراف سياسي أو تنظيم إداري وديموقراطي.