عبارة الأمين العام الراحل لـ"حزب الله"، حسن نصرالله، القائلة بأن "العميل لا دين له، ولا طائفة"، لا تستوي مع الاتهامات الموجهة لخصوم السياسة في الداخل اللبناني، تلك التي تستهدف فئات بأكملها، سواء لتنميط خصوم الحزب على ضفة جمهوره، أو لتنميط طائفة بأكملها على ضفة منافسيه المحليين، وقد انفجرت مع الكشف عن عملاء جدد يعملون لصالح العدو الاسرائيلي.
إدانة "البيئة"
ففي الساعات الماضية، شهدت الساحة اللبنانية كشفاً جديداً عن شبكة من العملاء اللبنانيين الذين جندهم الموساد الإسرائيلي، يتحدر معظمهم من الجنوب اللبناني، ويعدون من ساكني مناطق نفوذ "حزب الله"، أو من أقرباء لعناصر في الحزب. كما أن جميعهم من الطائفة الشيعية ومن بيئة الحزب عموماً. ووفقاً للتقارير المتداولة، لجأت إسرائيل إلى وسائل متنوعة لتجنيد هؤلاء العملاء، بما في ذلك استغلال منصات التواصل الاجتماعي وأساليب استدراج مختلفة.على خلفية تلك الأخبار، ارتفعت وتيرة الاتهامات لبيئة "حزب الله" حصراً بالتعامل مع إسرائيل، وباتت مادة إدانة لتلك البيئة، إنطلقت من خلفيات سياسية، واستبعدت أي أسباب أخرى للتعامل مع العدو، فيما تحولت الى مادة توظيف سياسي.رواية مجتزأة
والحال أن هذه الاتهامات، تقدم رواية مجتزأة، لا تلحظ موقع نشاط الاستخبارات الاسرائيلية، وتختزل العمالة في الجانب الأمني الجاسوسي. فالإحاطة بهذا الملف، يمكن أن تقود إلى تركيز أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية اهتمامها على بيئة "حزب الله"، باعتبارها هدفاً استراتيجياً. ومن الطبيعي أن تسعى إسرائيل لاختراق المناطق المحيطة بقيادات الحزب ومراكزه ومستودعاته الحساسة، بما في ذلك محاولات تجنيد أفراد من داخل التنظيم ذاته.ورغم ذلك، فإن الخطاب الذي يروّج لصورة نمطية تُظهر فئة واسعة من اللبنانيين كعملاء، يفتقر إلى الموضوعية والإنصاف. لم يتم توجيه النقاش نحو دراسة أساليب التجنيد المستخدمة من قبل العدو ونشر الوعي بين المواطنين لتعزيز الحذر، وتجنب الوقوع في شركه، خصوصاً أن تلك الأساليب قد تكون خفية وغير متوقعة، ما يجعل استعراض التجارب وتفاصيل التجنيد أداة فعّالة للوقاية.بدلاً من ذلك، أصبح هذا الملف وسيلة للمناكفة السياسية. واستُغل في إطار الخصومة مع "حزب الله"، خصوصاً في ظل التباينات الراهنة المتعلقة بتشكيل الحكومة والجدل الدائر حول حصة الثنائي الشيعي في العهد الجديد.عمالة مردودة
لكن الأمانة، تستدعي نقاشاً آخر. فما تم اتهام بيئة الحزب به، بشكل تعميمي، هو نتيجة لخطاب سابق، عمّم فيه جمهور الحزب الاتهامات بالعمالة على جميع خصومه ومنتقديه، وأسقط حقهم في الخصومة السياسية وإبداء الرأي، فاتُهموا بالتماهي مع سردية العدو. هي الكأس نفسها يتجرعها "حزب الله" اليوم. كأس الاتهامات المعممة بالعمالة.. من قبل خصوم سياسيين.في الواقع، تعكس الاتهامات المعممة اليوم، استياءً متراكماً من جمهور "حزب الله"، الذي غالباً ما اتهم خصومه السياسيين بالعمالة جزافاً. ورغم ذلك، فإن الاتجاهين، سواء التعميم النمطي أو الاتهام العشوائي، يمثلان نهجاً مرفوضاً ينبغي تجاوزه لتحقيق نقاش أكثر عقلانية ومسؤولية.ومن المفيد التذكير بأن استهداف الموساد لبيئة معينة، له دوافعه الأمنية، تبعاً لأولوياته الاستخباراتية. ويُظهِر السياق التاريخي في لبنان بوضوح أن العمالة لم تكن يوماً محصورة في طائفة أو منطقة بعينها. ففي سنوات ما قبل تحرير الجنوب العام 2000، سجّل لبنان حالات سقوط عملاء من مختلف الطوائف والمناطق، ما يؤكد أن تهمة "الخيانة" تتجاوز الانتماءات الدينية أو السياسية. فالعميل، في نهاية المطاف، هو فرد اتخذ قراراً شخصياً بالخيانة، حسبما أفضت التجارب والتحقيقات، ويبقى فرداً لا تتحمل بيئته مسؤولية جرمه، وتالياً، فإن التعميم هو بمثابة وصمة جماعية لا مبرر لها.