ربما كان الاستخفاف في ما جرى منذ فترة من تجاذب بين الإسرائيليين من جهة، واللبنانيين والفلسطينيين من جهة أخرى، حول أسبقية أحدهم على الآخر في ابتكار أطباق غذائية، مثل الفلافل والحمص، مردّه إلى اعتبار الأمر من نوافل الأعمال التي لا يُعتدّ بها في حياة الشعوب، ولا هي مصدر مباهاة لها. في حين أنّ التمعّن في المسألة يفضي إلى حقيقة أنّ ما أُثير من سجال بين الطرفين، إنما هو سجال حضاري، تتمّ قراءته وفقاً لبعض نظريات علم الاجتماع وعلم النفس. فالإنسان منذ لحظة وجوده على الأرض، يتفاعل مع العالم بيده وفمه. والفم هو الواجهة النشطة مع محيطه أخذاً وعطاءً، مُدخلاً للطعام ومُخرجاً للكلام. واستراتيجية التقابل بينهما تؤدي إلى تقاطع بين الهوية والغيرية، على خلاف أعضاء الحس الأخرى التي هي في اتجاه واحد. ومن خلال النواة الفموية البدائية تتكاثر العناصر المكوّنة لتمثيل الطعام، حيث تتشكّل مع الوقت مساحة لتمثلات أكثر تعقيداً، وارتباطات أولية تنظّم الحياة العلائقية بين الأفراد، وقادرة على التعبير عن أفكار معقدة للغاية. وتلعب فيها الأم الحاضنة والمغذية الشخصية المركزية للبناء الأولي للطعام، الذي يخلق في المشهد العائلي مجال استثمار عاطفي قوي. وكان المفكر moscovici يقول إنّ كل ما هو عالمي في الإنسان، أو في المجتمعات هو من أصل بيولوجي، بما فيها من العواطف والتصوّرات والأفعال. فالغذاء عامل وجودي، يتيح لنا تحديد البنى الثقافية التي يمكن أن تكون نقطة دعم للنظريات، والأعراف السياسية التي تطبّقها المجتمعات على نفسها. وعليه فإنّ الباحثة الفرنسية corine pelluchon في كتابها: "الأطعمة، فلسفة الجسد السياسي" ترى إلى الظواهر السياسية والأخلاقية من خلال مفهوم الطعام والنظام الغذائي، حيث إنّ في مقاربتها الفلسفية تتبنى مصطلح الغذاء منطلقاً لعلاقة البشر بذواتهم كأجساد، تتقاسم مع غيرها الأطعمة النباتية والحيوانية لسد رمقها، في عالم يعاني فيه أكثر من 800 مليون انسان من الجوع، ومليارين من سوء التغذية. ويبرز في هذه الحال اختلال ميزان العدالة في توزيع الموارد، وعدم مراعاة ما ينجم عن ذلك من تقصير وبؤس يصيبان شرائح متعددة في المجتمعات الفقيرة. بل تذهب كورين بليشون إلى ضرورة حماية المحيط الحيوي الذي تعيش فيه الحيوانات الداجنة، وغير الداجنة، في إطار التكامل بين كائنات الأرض. ويتجاوز منظورها الفكري المفهوم الآلي، أو الفسيولوجي للجسد الذي كان فيه الطعام مجرد "وقود"، إلى حسبانه معياراً وجودياً وثقافياً، بل وأخلاقياً، يمر عبره الوعي بالخير والشر، بالعدل والظلم.
(لوحة الرسام الإسباني دييغو فيلاثكيز "سيدة مسنة تقلي البيض")نشاط التغذية هو تلبية لحاجة بيولوجية، لكنه مع ذلك حاجة نفسية تتحوّل إلى لذة نسعى إليها من أجل ذاتها، وتجعلنا ننغمس في هذا العالم الحسي، من خلال التأكيد على هذا البُعد من المتعة التي تمثّلها نكهات الأطعمة المتنوعة: قوامها، قرمشتها، حلاوتها، عذوبتها. أحاسيس لها حقيقتها الخاصة التي تغرس فينا الشغف بالحياة. والأجسام الحيّة تنتمي إلى الحياة، بقدر ما فيها من جوع وشهية وشراهة. وإشباع أفواهنا من الأكل أمر طبيعي وتلقائي، من أجل استمرار الحياة، لكنّ السؤال ماذا، وكيف، ومتى، ومع من نأكل، هو الموقف الذي تتحوّل فيه عملية الأكل، إلى عملية تبادل الأذواق، وإرساء المعايير السلوكية والاجتماعية المقبولة من الطاعمين. وبهذا التبادل والتفاعل بين الناس، تتأسس قواعد عالم أخلاقي وسياسي مشترك.
(صحن حمص)وإذا كان يُنظر إلى مكان كتب الطبخ المركونة في زوايا المكتبات، على أنها منتجات ثانوية، لا قيمة علمية أو ثقافية لها، فإنّ المتابع أوالباحث في هذا الموضوع، يتوقف عند ما يمثله طهي الطعام، وما يتطلّبه من جمع لمكوناته وعناصره المختلفة، وطريقة إعداده، وفرزه، وحاجته إلى درجات محددة لتبريده، أو تسخينه، أو حفظه، ما يستحق التأمل والتحليل الدقيق. وعموماً تهدف كتب الطبخ إلى "توثيق" المأكولات الوطنية، وبمعنى ما، تنطوي بعض هذه الكتب على خطاب معياري، يسهم في بناء هوية جماعية، تقوم على قانون يحكم جميع أبعاد الوجود بما فيه أدق التفاصيل. وهي الطريقة التي قدّم فيها ilan zvi baron كتابه عن دبلوماسية الطهي، إذ كان ينظر إلى كتب الطبخ على أنها منتجات ثقافية وسياسية. وفي جردة لعناوين كتب الطبخ في المجتمع الإسرائيلي المعاصر، يتبين له أثر التعاليم التوراتية كحجر أساس لاختيار أنواع من الأطعمة، والتشدّد في عملية طهيها، وطريقة حفظها وتناولها. ورغم هذه الصرامة في توخي الحذر خشية خرق القواعد والأصول، فإنّ من الصعب جداً تحديد ماهية المطبخ الإسرائيلي بالضبط. إذ لا يمكن أن يكون فن الطبخ فناً يقتصر على المواد المحلية أو الوطنية. بل لا مناص من استخدام عناصر من الإقليم ومحيطه. وعليه فإن مصطلح المطبخ الإسرائيلي لا يعني بالضرورة أنّه من نتاج إسرائيلي. بل هو أقرب إلى أن يكون بوتقة ينصهر فيها العديد من مكوّنات ذات أصول متباينة للغاية، فهو يستوحي عناصره من مطابخ البلدان التي عاش فيها اليهود، على مدى أزمنة طويلة، مثل المطبخ المغربي، كما المصري واليمني والعراقي والتركي والأوروبي الشرقي، والفلسطيني بالدرجة الأولى، مازجاً بين مطابخ العالم القديم والعالم الجديد. ومحاولة تقديم أطباق المطبخ الإسرائيلي ومنتجاته، كإحدى الممتلكات الثقافية إلى الرأي العام العالمي، وإشهاره على أنّه مطبخ وطني ذو هوية راسخة، جزء من السعي المحموم لإيجاد مسوّغ تاريخي "لعراقة الوجود الإسرائيلي" في أرض فلسطين.
(لوحة "وجبات الإفطار" للرسام الهولندي فلوريس فان ديك)المطبخ يطبع الأفراد بميسم الشعور بالهوية الثقافية والاجتماعية الواحدة، ويعكس التعاملُ مع الطعام في مستويات الإنتاج والتحويل والحفظ والاستهلاك، انتقالَ الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة، ويخلق بذلك قيماً حضارية، وشيفرات ثقافية، ويعبّر عن التمايز الإجتماعي، والتراتب الطبقي. وتدلّ فئة الأطعمة على رموز إجتماعية وسيميولوجية، فيرتبط الخبز بالنعمة، وتمثّل التفاحة رمز الإغواء الحسي والشهواني، ويدل شرب القهوة أو الشاي على الجلسات العائلية أو الصداقة. ويعبر أكل اللحم او السمك الفاخر عن الطبقة الميسورة. ويتخذ شرب النبيذ أو الخمر بُعداً احتفالياً. كذلك تلعب بعض العوامل الاجتماعية والثقافية دوراً في تحديد أنواع من الأطعمة المرتبطة بالقيمة الاجتماعية، أوالروزنامة الدينية، أو الفوائد الصحية، أو الحفاظ على معايير جمالية مثل الرشاقة. ويمكن تفسير حظر أنواع من الطعام، بالرغبة في وضع علامة مميزة، تؤسس لتماسك المجموعة حول هوية غذائية، تؤدي دوراً مهماً في عملية الانتماء الديني، من خلال المحافظة على معايير محددة، كما عند اليهود الذين يتمسكون بتحريم استهلاك اللحوم غير الخاضعة للكوشر، أو الشريعة اليهودية. كذلك هي حال المسلمين الذين يحرّمون أكل اللحوم غير المذكاة. ومن الواضح أنّ الممتنع عن تناول هذه اللحوم، يؤكد لنفسه وأبناء طائفته رسوخ انتمائه إلى جماعته الدينية.
(أوغست رينوار: "غداء حفلة القوارب")ويحمل المهاجرون والنازحون معهم مطبخهم. فالطعام هو أحد الآثار المحسوسة لحضورهم، كما يقول دافيد لوبروتون. بل يصعب على البعض حتى استساغة الماء المختلف عن ماء بلاده، ولا يكلّ اللاجئون الأفغان في باكستان من ترداد أنّ ماء قراهم في الوطن، أفضل من الماء التي يستسقونه في منفاهم. والتأقلم مع المجتمعات التي يفدون إليها، لا يتمّ بتبني العادات الجديدة فحسب، إنما هو بالمقام الأول، تقبّل تدريجي لنكهة الطعام الذي توفره لهم مجتمعات الاستقبال في المهجر، لاسيما لدى جيل الآباء. أما جيل الأبناء الذين أبصروا النور في البلاد الجديدة، فتتحوّل سلوكياتهم الغذائية، بما يتماهى مع أوضاع المجتمع الجديد، ويتماشى مع طرائقه وأذواقه. ومع سرعة عجلة العولمة التي تكتسح العالم، تتفكك أشكال من الممارسات الغذائية وفنون الطهي. ويتصدّر "الفاست فود" لائحة الأطعمة الجاهزة، والمنتجات ذات المذاقات المصطنعة والمركّبة والمجمّدة والمجففة، التي فقدت مذاقها الطبيعي. ويرى حازم صاغية "في مديح السندويش" أن السندويش يشدنا إلى الانتقال والتحوّل والجديد، وإلى التخفف من كل إرث متوهم، ومن الوجبة المحكومة بالاجتماع العائلي، ومواعيد تناول الطعام حول الطاولة البيتية، إلى حمل السندويش إلى أي مكان. ومن أنفاس العائلة وحرارتها، إلى التعارف العابر بين زبائن المحل، ومجافاة أي نظام وطقس.