2025- 01 - 22   |   بحث في الموقع  
logo الفيلم السوري "يونان" ينافس في مهرجان برلين logo العراق يقر تعديلات "الأحوال الشخصية": قد تمهد لزواج القاصرات! logo مجموع مشتركي "نتفليكس" يتخطى 300 مليوناً logo نقابة المعلمين: لدعم المعلم ماديا ومعنويا logo سحب الدخان غطت سماء طرابلس.. سلسلة حرائق تثير القلق (صورة) logo رابطة متعاقدي الأساسي طالبت وزير التربية بالاسراع في دفع بدل الإنتاجية logo 10 آلاف فرصة عمل للبنانيين بفضل الصناعات التكنولوجية logo رئيس الجمهورية استقبل بطل التنس هادي حبيب
حين تذكرنا الصور بأننا نجونا صدفة
2025-01-22 15:55:47

في وقت ما، نشرتُ هنا في المدن مقالاً حمل عنوان "جغرافيا الرعب في ذاكرة الدم السورية" عن تموضع المقرات الأمنية الأسدية في صفحة جغرافية دمشق، حيث يظهر من خلال ملاحظات المشاهد الذي يعبر الشوارع والساحات، أن هذه الأمكنة أشبه بثآليل غير حميدة، لا تشوه منظر المدينة فقط، بل تترسخ في الحدقات، وتؤذي، حتى يكاد المرء ينزّ في داخله خوفاً، من أن يقوده أحد ما، نحو جوف المجهول وراء ما يراه.لم يدخل جميع السوريين إلى المعتقلات، لكنهم كلهم عاشوا إلى هذه اللحظة هذا الإحساس الرهيب، في أن ينتهي مصيرهم هناك إثر وشاية من مخبر أو من حاسد، أو من طامع في المكاسب!كيف حدث أن جرى تعميم الخوف الصلد هذا؟ وكيف صار لدى كل سوري صرة جاهزة في عمق نفسيته، مملوءة بأنواع الرعب المتوقع وغير المتوقع، الذي سيواجهه حين يعتقله العنصر، أو تذهب به الدورية الأمنية.لا حاجة هنا لاستعادة الخلاصات عن طرائق الأنظمة التسلطية، في بث الخوف منها، من أجل تثبيت سلطتها، لأن آليات السيطرة في زمن الانكشاف الكبير هذا، صارت واضحة، وتكاد لم تعد تجدي، أمام توسع فضاءات الحريات، وتمدد مفاهيم حقوق الإنسان حول العالم، وربما صار توجُهُ أي سلطة نحو استعادة ميراث الديكتاتوريات البائدة مفضوحاً، إلى درجة اعتباره ملمحاً كوميدياً، لشدة سذاجة من يستخدمونه.(هشام موصلي)لكن الفاجعة التي يصنعها فينا وجود الإجرام الأسدي، تأتي من أن هذا النموذج كان استثنائياً، في هضمه لطرائق الآخرين في قتل الإنسان، ففي الوعي الأمني السوري، ستمر بك صورة عبد الحميد السراج، الذي قادر سنوات الوحدة مع مصر بالحديد والنار وتذويب أجساد المعارضين بالأسيد كما فعلوا بالشيوعي فرج الله الحلو، وأيضاً ملامح الأدوات النازية لدى جهاز "الغستابو" ووريثها الألماني الشرقي "الستازي"، وقبلهما "الكي جي بي" الروسي، وأيضاً ملامح تأتي من كوريا الشمالية والصين، وآخرين في الغرب والجنوب!طيلة عشرات السنين، تراكمت أدوات تفكيك الإنسان السوري، بالمعنى النفسي إلى خوف ورعب وتقية، ومساومات شتى، في سبيل النجاة، من المصير المجهول الذي يقبع خلف الثألولة الأمنية، التي يمر بها مرغماً، ليس في دمشق وحدها، بل في كل بقعة هنا، ففي كل مدينة سورية، ثمة فرع للأمن العسكري وفرع لشعبة الأمن السياسي وآخر لإدارة أمن الدولة ومساحة مشابهة للمخابرات الجوية.وفي زمن الثورة صار لكل واحد من الفرع وفروع الفروع حواجز خاصة، تحمل نسغ إرهاب البشر، إلى الطرق المحلية والوطنية، وزادت الفرقة الرابعة التي تتبع ماهر الأسد طين القذارة بلة، حيث صار الحاجز يحمل طابعاً مافيوياً، يمكن للواقفين فيه، أن يجروا العابرين، إلى مجاهل ثكناتهم البغيضة، إن لم يدفعوا الإتاوات المطلوبة.الآن، وبحسب التقارير التي يخرج بها زملاء من الصحف والمواقع والفضائيات، ينكشف مشهد المجهول، الذي رسخ عقوداً من الزمن، وراء أمكنة الخوف والرعب! فيشاهد السوري المهاجع والزنازين القذرة، التي عاش فيها المعتقلون طيلة 14 سنة من زمن الثورة، وعشرات السنين قبل هذا الحدث المفصلي في تاريخ مل شيء في البلاد، وعبر كاميرات تنقل فوضى غرف التحقيق ووثائق المحققين، يمكن لأي منا أن يستعيد ما جرى معه، حين تم استدعاؤه إلى الفرع لسبب ما، ويتذكر ملامح صف الضابط الذي يسأله، ويسترجع نبضات قلبه المرتاع، وهو ينتظر قرار الضابط المسؤول، بعد أن يطلع على محضر التحقيق، فإن كانت أمه قد دعت له بالتوفيق فعلاً، كما يقال في الموروث الشعبي السوري، فإنه سيخرج من قفص الرعب، وإن كانت الدعوات قد ضلت طريقها، فإنه سيسقط في الجوف، حيث ستطحنه معدة الآلة الدموية، وسيصبح مصيره مؤجلاً، كما جرى مع مئات الآلاف، ممن لم يعرف في أي أرض انتهت عظامهم.كان من الصعب عليّ وأنا أكتب عن الأمكنة المرعبة في دمشق أن أقود القارئ الذي لا يدري، إلى الممرات المعتمة في الأقبية، وإلى هذه اللحظة مازلت أواجه المعوقات في أن أشرح طبيعة الخوف، الذي لم أشف منه، رغم هروبي بعد عامين من بدء الثورة، خوفاً من أن يتم توقيفي، بعد أن صار منع السفر أمر اعتقال!تقدمُ الصديقة بيسان الشيخ في تقريرها المصور في صحيفة الشرق الأوسط تفاصيل عن فرع سرية المداهمة أو الـ215، أو ما سماه السوريون الناجون فرعاً للموت، وتأخذني إلى المكان، الذي حُقق معي فيه عن نشاط ما قمت به في مبنى التلفزيون، خلال السنة الأولى للثورة.لم أكن وحدي، وحدث أن المحقق الشاب الذي رأى ملفاً كبيراً أمامه، قدّر أن الثرثرات المدونة فيه ليست ذات أهمية، فهي أعمال تطوعية لبعض المخبرين، لكن الأمور المهمة من نوع الإغاثة والتمويل والمشاركة في المظاهرات غائبة، ولهذا كان الأفضل وبحسب توقعاتي لتقديراته، أن يتركني طالما أن منع السفر يجعلني تحت اليد.يقول لي زميل ذهب إلى التحقيق ذاته إننا "ناجون بالصدفة"، وأشاركه الاستنتاج المرعب، حين أتذكر أنه بعد شهر وأكثر من ذلك التحقيق، استشرس جمع المخبرين في مبنى التلفزيون، وقرروا بمشاركة عناصر الفرع، الذين يتولون حماية المكان، أن يطهروه من كافة العاملين، الذين يُشك بأنهم يدعمون الثورة، ويؤيدون الجيش الحر، فاعتُقل العشرات، ونجا البعض، في منحة إلهية لكي يرووا ما حدث، في تلك الزنازين، واختفى أثر من جانبهم الحظ، والقدرة البدنية، حيث يؤدي سوء الهواء، والجراثيم والضغط النفسي الهائل والعتمة، والعذاب الجسدي إلى اضمحلال الإنسان ليصبح مجرد كائن، أو ماكينة حية تتهاوى، فيفصل صاحبها، كما يقول الناجون وهم يعنون بذلك انتهاء القدرة العقلية على العمل، وبما يؤشر إلى اقتراب الضحية من الموت.أسأل أحد الناجين عن هشام موصلي فني المونتاج الدرامي، الذي تشاجر مع أحد المخبرين في "جزيرة المونتاج"، حين قال أن جيش النظام نهب بيته، ما أثار حنق المُخرج المخبر الذي ادعى بالمقابل أن من فعل ذلك هي العصابات المسلحة، وحين لم يتراجع هشام عن قوله، جاء عناصر الفرع واقتادوه إلى السرية، وهناك بعد أيام، أصيب بجلطة وقضى.نحن نرى الجوف المرعب الآن، الكاميرات تستبيحه، وتُظهر كل ما فيه، قذارة الجدران والبطانيات الممتلئة بالجراثيم والميكروبات، الأبواب الحديدية.وحدها الأوراق، والبطاقات الشخصية، ودفاتر العائلة، ورخص القيادة، وجوازات سفر كل من اعتقل هنا، ولم يخرج! هي ما يشي بأن ثمة أرواح ماتزال عالقة هنا، لا لتخيف من يأتون لزيارة الأقبية، كما لو أننا في فيلم رعب سينمائي، بل لتذكّر بأن ما جرى يجب ألا يُنسى، وألا يُترك دون أن يدون في سجلات العدالة الأرضية، بعدما غابت الحكاية وقتاً مديداً، بانتظار عدالة السماء.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top