الأسابيع التي مضت منذ التوقيع على اتفاق وقف النار في لبنان، كشفت واقعاً أمنياً جديداً على الأرض. كان وقف النار من جانب واحد فقط، هو "حزب الله"، فيما واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي عملياتها بوتيرة أقل في الجنوب اللبناني، على وقع تصريحات لنواب الحزب ومسؤوليه وإعلامييه يُصرون فيها على "انتصارهم" في الحرب.بغض النظر عن النتائج الأمنية والعسكرية للحرب، وما تبعها سريعاً من سقوط النظام السوري في دمشق، كانت الأسابيع الماضية حبلى بمشاهد واقع سياسي جديد، بعيداً عن سياسة هيمنة حزب الله ونفوذه خلال العقود الماضية، وعمادها التعطيل وشغور مراكز الدولة وإضعافها.طبعاً، المشهد الأول في هذه السلسلة كان انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للبلاد، ومشاركة الثنائي الشيعي في ذلك. المشهد الثاني كان سقوط نجيب ميقاتي في التسمية لرئاسة الوزراء، ونجاح مرشح التغييريين ولاحقاً المعارضة، القاضي نواف سلام. هذان المرشحان كانا في المقلب الآخر من تحالف "حزب الله"، لكن واقع ما بعد الحرب تبلور سريعاً في توازنات العملية السياسية، وأطلق ورشة إعادة تكوين الدولة.
المشهد الثالث كان تفكك إطار التحالفات التي بناها "حزب الله" لحماية سلاحه ومصالحه على مدى عقود، وعلى دفعات. في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، تحالف حزب الله مع حركة "أمل" منهياً سنوات طويلة من الاقتتال والتنافس على التمثيل الشيعي. بعد انسحاب القوات السورية من لبنان، شكّل "حزب الله" وعاء لأنصار النظام وبقاياه في المناطق، فصار نتيجة الدفاع عن دمشق، حليفاً طبيعياً لأزلامها السابقين، لا بل وذهب أبعد من ذلك عبر ضم التيار الوطني الحر الى ائتلافه عام 2006. واللافت أن التحالفات تتفكك بتدرجها الزمني، أي بشكل معاكس، بدءاً من التيار الوطني الذي خرج عن طور الحزب منذ إعلان ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية، وواصل ابتعاده مع اندلاع الحرب وبعدها. خسر "حزب الله" حليفه المسيحي أولاً.سقوط النظام السوري فتح الباب سريعاً أمام تشققات أخرى. في مشهد الاستشارات النياية، كانت الكتل والشخصيات المحسوبة على النظام السوري سابقاً وتحديداً تلك السنية من الشمال والبقاع، واضحة في توجهها المغاير لحزب الله وخياراته. هذه كانت الورقة الوحيدة غير الشيعية للحزب للادعاء بوجود ائتلاف لبناني واسع حول شعار المقاومة وما تجلبه من خيارات سياسية للبلاد. هذا الانهيار للتحالفات النيابية كان موازياً لتراجع في الأبواق الإعلامية كذلك، وهي كانت تضخ باتجاه واحد وفقاً للمسار السياسي للحزب. باتت الآن بأفضل تقدير صديقة له مع بعض الانتقادات المتفرقة.هذا على المستوى الوطني اللبناني، لكن على صعيد الطائفة الشيعية، المسألة مختلفة وأكثر أهمية. قبيل نهاية هذه الحرب الأخيرة، برزت شقوق بين طرفي الثنائي الشيعي حيال إنهاء الحرب ودور إيران فيها. ذاك أن الحركة بنت تحالفها مع "حزب الله" على أساس مصلحي، إذ شرع التنظيم بمؤسساته وتمويله الهائل نسبياً يقضم من شعبية "أمل". خلال العقود الماضية، كان من مصلحة "أمل" اقتسام السلطة والمقاعد مع "حزب الله"، للحفاظ على مكتسباتها. بعد الحرب الأخيرة، تبدلت حسابات "أمل". ليس الحزب رافعة شعبية أو مالية للحركة، بل عبئاً على المستويين الشيعي والوطني كذلك. لهذا أظهرت الحركة تبايناً مع الحزب في الموقف من نواف سلام وعملية التشكيل الحكومية، وستتباين كذلك في محطات أخرى لاحقة. لا تريد الحركة أن تفوتها حصة في المراحل المقبلة، وهي غير معنية أصلاً بالسلاح وشعار المقاومة التي باتت عبئاً أمنياً واقتصادياً وسياسياً ينبغي الفكاك منه. تُريد الحركة أن تكون في مجرى النهر للحفاظ على حصصها، بدلاً من التحول لجثة على ضفته.المرحلة الأبرز في مسار التحالف مع حركة "أمل" ستكون في الانتخابات النيابية المقبلة، وتحديداً إذا قررت الترشح المنفصل، في حال تراكم الخلافات مع حزب الله. إذا حصل ذلك، فإن فكاك قبضة الحزب على التمثيل الشيعي، نتيجة حتمية، ما يفتح المجال أمام تعددية لطالما جهد لمنعها.
سياسياً، يتدحرج الحزب نزولاً من موقعه قبل الحرب، ويبدو كأنه فقد القدرة على استخدام المكابح.