أن تلتقي مع جيهان أمين صديقة الدراسة وصديقة الحياة، يعني أنك تقف أمام أبواب الذاكرة وتلك الأيام التي لا تغير معدن الكائن أو تلونه، بالوجه البشري المكافح الحقيقي الطيب والإنساني جداً، كما أنه ليس من السهل تفادي مديح هذه الصداقة بكلام عابر وقليل. واحدة من الشهود على سير المحاكمات الميدانية التي كانت تحدث بحق مئات وآلاف السوريين، وجزء من الذاكرة الحقوقية إبان حكم الأب والابن. بدأت العمل في سلك المحاماة منتصف العام 1999 كمحامية متدربة، وكان لهذه الفترة على حد قولها فائدة كبيرة بما لا يُقاس بالفترة الدراسية النظرية. ثم في العام 2002 بدأت العمل كمحامية مستقلة، تعرّفت خلالها على المحامين الذين يشتغلون ويرافعون في محاكم أمن الدولة والمنظمات الحقوقية، وستتشكل في ما بعد المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان بمشاركة مجموعة من الحقوقيين والنشطاء، لتسليط الضوء على ملف المعتقلين وأوضاعهم والانتهاكات التي كانت تحدث في السلك القضائي أيضاً.- متى بدأت تحضرين جلسات محكمة أمن الدولة؟* العام 2004 بدأت حضور الجلسات في محكمة أمن الدولة، وكانت تشكلت مجموعة من المحامين منهم خليل معتوق، ميشيل شماس، أنور البني، رزان زيتونة جميعنا كنا متواجدين هناك وبحضور معتقلين من سجن صيدنايا تحديداً، غالبتهم من تيارات مختلفة: حزب العمل الشيوعي، إخوان مسلمون، المنظمة الشيوعية العربية، أحزاب كردية، بالإضافة إلى مستقلين.
رئيس المحكمة سيىء الصيت فايز النوري كان لوحده بمثابة فرع أمن وليس رئيس محكمة . ومحكمة أمن الدولة هي محكمة استثنائية وليست محكمة مقررة في الدستور. النظام كان يشكل المحاكم على مقاسه وهواه، ونحن كنا مضطرين للتواجد لأنها المحكمة الوحيدة المتاحة أمامنا للدفاع عن هذا الملف. شكّلنا لجنة الدفاع عن المعتقلين وبدأنا نحضر جميع الجلسات، مع منع المحامين من زيارة سجن صيدنايا، فقط أثناء الجلسات بإمكاننا رؤية المعتقلين في النظارة، نتحادث معهم ونطمئنهم أننا نحن محامو الدفاع عنهم. كان بعض الأهالي يقومون بزيارة السجن. تابعنا هذه الجلسات لفترة طويلة، ثم في أحد المرات حدثت مشادة بين رزان زيتونة ورئيس المحكمة مُنعت على أثرها من الدخول إلى قاعة المحكمة فيما بعد، تنتظر خارج القاعة، فيما بعد كنا نعطيها جميع أسماء السجناء الماثلين أمام المحكمة، ومن ثم كانت تقوم بتوثيقها ومن ثم ترسلها إلى المنظمات الحقوقية. عدد المعتقلين لدى أمن الدولة كان هائلاً، وعددنا كمحامي دفاع قليل جداً، مع ذلك حاولنا جهدنا تغطية أكبر عدد منهم، والحصول على أكبر عدد من الأسماء، وقد ساعدنا في ذلك بنية الفساد في الجسم القضائي، حيث ندفع بعض المبالغ لعناصر الأمن فتم تسريب أسماء كثيرة مع التهم الموجهة إليهم. بين 2008 و 2009 انحلت محكمة أمن الدولة، وحدث تعديل للدستور المادة 8 وتم خلالها إحالة القضايا هذه إلى محاكم الجنايات العادية أمام القصر العدلي.- على ما أذكر اعتُقل رياض سيف ومأمون الحمصي العام 2006؟* نعم اعتقل رياض سيف من بيته، أما مأمون الحمصي فتم اعتقاله من مجلس الشعب، بسبب تقديمهما عريضة تعارض سياسة النظام، كما نوهت لقضية الفساد، ووحول أحقية الدولة في وضع يدها على مايخص قطاع الاتصالات "سيريا تيل" ومنظومة الموبايلات.
حضرتُ جلساتهما أمام الجنايات الأولى في القصر العدلي، كما حاولنا زيارتهما مع متابعة حثيثة للجلسات، لكن التعليمات الأمنية هي التي كانت تتحكم بمسار الجلسات وليس القضاء.- ماذا عن فترة إعلان دمشق في العام نفسه؟* تم توقيف د.فداء حوراني، رياض الترك، فائق المير، أنور البني، وشباب آخرين من قيادة الإعلان، وقد تابعنا ملفهم إلى آخر لحظة، حتى الزيارات للسجن كنا نقوم بها أيضاً. كانت المحاكم تشتغل على قدمٍ وساق، أضف إلى ذلك فترة إعلان دمشق - بيروت تم توقيف ميشيل كيلو ومحمود عيسى أمام محاكم الجنايات.- ما هي أغرب قضية أو حادثة مرت معك خلال عملك؟* سأذكر لك شيئاً من الحوادث التي كانت تواجهنا تحديداً بعد حادثة رزان زيتونة، مشكلة واجهها المحامي خليل معتوق مع رئيس المحكمة الذي أنّبه لكونه مسيحياً وكيف له أن يكون محامي دفاع عن معتقل من الإخوان المسلمين، ليرد معتوق عليه: "أنا محام، أقدم وكالتي وأقدم دفاعي فقط".حادثة ثانية: حضرتُ جلسة لدكتور جامعي من جامعة حمص اعتقل لقيامه بترجمة ونشر مقال عن التكنولوجيا، تمّ الحكم عليه بالمؤبد من قبل فائز النوري وقد أغمي عليه أثناء إطلاق الحكم.في إحدى الجلسات، كانت هناك امرأة فلسطينية تم نقلها إلى المحكمة من فرع التحقيق ومن ثم تحولت إلى الجنايات بسبب إعطائها تصريح لمحطة إعلامية تطالب فيها بجرة غاز. بدأ القاضي رضا موسى يزمجر في القاعة موجهاً كلامه نحو المرأة: "أنتِ فلسطينية، أطعمناكِ وسقيناكِ. ولكِ مطالب..؟"، ردت عليه: "كل الذي قلته وطالبتُ به هو جرة غاز ورغيف خبز"، وجّه لها كلاماً نابياً ومن ثم طردها من المحكمة. كان الموقف سيئاً للغاية.في 2011 تم نقل رغيد الططري من سجن صيدنايا إلى سجن عدرا، وكان ضابطاً طياراً رفض أوامر عسكرية بقصف مدينة حماه وهو معتقل منذ سنة 1981 وكان محكوماً بالمؤبد، تعرفتُ عليه هناك وطلب مني أن أكون محامية دفاع له وكان محالاً إلى المحكمة الميدانية العسكرية، وأمام هذه المحكمة لا نستطيع فعل أي شيء، ولا بإمكاننا الدفاع عن أحد، مع العلم أننا حاولنا تقديم مذكرة الدفاع عنه لوزارة الدفاع والنيابة العامة العسكرية أنه أمضى ثلاثين عاماً في السجن، لكنها قوبلت بالرفض. أمضى سنواته بين سجن عدرا والسويداء وهناك سيعاقب لاستحواذه على موبايل فتم نقله إلى سجن طرطوس.
(اعتصام في دمشق)قضية أخرى حدثت معي أمام القضاء العسكري. أنور البني كان يتابع ملف أحد الأصدقاء، التهمة أنه كان مع أصدقاء أجانب في نادي الصحافيين يشرح لهم الصور الكثيرة المعلقة على الجدران لحافظ الأسد ولبشار، يشرح ويستفيض خارج النادي وفي سيارة الأجرة. بقي الشاب أكثر من ثلاثة أشهر لدى أمن الدولة ومن ثم تم تحويله إلى القضاء العسكري. خلال هذه الفترة دخل أنور البني السجن. تابعتُ قضية الشاب وطلبتُ منه إنكار أقواله لأنه كان قد اعترف لدى الأمن، ثم أنكر أقواله، لكن السائق كان موجوداً كشاهد وكان يشتغل مع المخابرات، وقاعة المحكمة كبيرة مع حضور كبير للأهالي، بدأ يصرخ في قاعة المحكمة: "يا سيدي القاضي هذا الشاب تعرض للرئيس وأتى بكلام غير لائق على الرئيس الخالد..." خيم الرعب والوجوم على القاعة. كمحامية يحق لي أن أكون إلى جانبه. سألني رئيس المحكمة: "ماذا لديكِ؟" أجبته: "لديّ ما أدافع عنه". وما أن نطقتُ بكلماتي حتى بدأ يصرخ عليّ: "عن ماذا تدافعين عنه؟". قلتُ له: "أريد أن أتحدث عن النقاط القانونية التي تتعلق بالتهمة، ولا أريد التكلم بشيء آخر" كنتُ خائفة وأرتجف أيضاً. خفتُ من الاعتقال.- أعرف أنكِ تعرضتِ للاعتقال كمحامية أكثر من مرة أنتِ مع أصدقائك؟* في العام 2006 سافرتُ مع أصدقاء محامين إلى لندن لحضور مؤتمر بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، بعد ثلاثة أيام من عودتي أتاني استدعاء لمراجعة الأمن السياسي، تواصلتُ مع أصدقائي بخصوص هذا الأمر، بقيت في الفرع أنتقل من غرفة إلى غرفة وكنت مرهقة جداً، في النهاية دخلتُ مكتب رئيس الفرع، وكانت حرب تموز في أوجها وقد ساعدني هذا الأمر كثيراً حين كتبتُ في نشرة الاستعلامات أننا تطرقنا في المؤتمر لحرب تموز وموضوع نزوح اللبنانيين إلى سورية. خرجتُ من المبنى لا ألوي على شيء من التعب والإعياء وقلة الحيلة.بعد عودتي من بيروت مرة ثانية، تم استدعائي من قبل أمن الدولة، فبررتُ نشاطي بأنني مهتمة بمسألة حقوق الطفل والمرأة.ذهبنا إلى لبنان والأردن في الفترة بين 2004 و2009 لحضور دورات تمكين في مجال حقوق الإنسان، وكوننا في سوريا استمرت النقاشات فيما بيننا هول أهم النقاط الاساسية التي يجب التركيز عليها، انضم إلينا آخرون مثل نورا غازي ودعد موسى وحسان الشحف ومهند الحسيني.. بالإضافة إلى وجود المنظمة العربية والمنظمة الوطنية وسواسية. في 2011 اعتقل مهند الحسيني بسبب مقالة على ما أذكر.بداية هذا العام حاولتُ أن أكون متواجدة أمام القصر العدلي ونقابة المحامين أيضاً في الميدان وبرزة والقابون وداريا، وكنا نستطيع الهرب من الأمن والاختباء في الحارات وبيوت الناس . كنتُ على قناعة أنه يجب الخلاص من هذا النظام. بدأت حينها الاعتقالات وبأعداد كبيرة، وشكلنا لجنة الدفاع عن المعتقلين منها: خليل معتوق، ميشيل شماس، أنور البني كان في السجن، إحسان اسماعيل، دعد موسى، حسان الشحف، نورا غازي، حسين عيسى... كنا نتوزع على عدد من الأماكن مثل القصر العدلي، القصر العدلي المدينة، القصر العدلي الريف ، القضاء العسكري، أمام النيابات وأمام قضاء التحقيق. رزان زيتونة كانت معنا تلك الفترة. نحضر الجلسات في هذه الأماكن، نتابع الوكالات ندخل على السجل النيابي نأخذ الأسماء ونوصلها لرزان. حاولنا تغطية تكاليف الوكالات والغرامات ونسددها حتى لا يبيت أحد في السجن.
(سقوط الأبد)اعتقل في ما بعد حسين عيسى.
في 2012 تشكلت محكمة الإرهاب بموجب القانون 19، وكانت أسباب الاعتقال تتم بغض النظر عن أسبابها: كتابة على الفايسبوك، التظاهر، المناطق الساخنة، إجراءات أخرى ناجمة عن الانشقاقات: اعتقال أفراد الأسرة... وكانت جميعها تخضع لهذه المحكمة التي أصبحت أمراً واقعاً.في الشهر العاشر من العام نفسه، اعتقل خليل معتوق، وهذه كانت الضربة القاصمة لنا، كان الدينامو الأساسي لمجموعتنا، ولا أنسى فضله، تعلمتُ منه الكثير. خلال الفترة ذاتها تم جلب مجموعة من مساجين صيدنايا، كان مشهداً مأسوياً: ثياب ممزقة، حفاة، جروح واضحة قروح تنز من أقدامهم، كدمات، ورائحة عفن تشبه رائحة جيفة، أخرج للحظة إلى الكوريدور من شدتها، حتى الأهالي فعلوا الشيء ذاته. رئيس المحكمة رضا موسى لم يحتمل الرائحة أيضاً.في 2013 شاركت في لقاء شبكة المرأة السورية في بيروت كمستشارة، وكنتُ أنوّه دائماً لوضع المعتقلات في السجون السورية. منعتُ من السفر في ما بعد.
في 2014 منتصف شهر شباط، اعتُقتُ من قبل فرع الأمن العسكري – فرع المنطقة، وتوقيت الاعتقال كان مرعباً، حوالي الساعة السابعة مساءً، أربع سيارات مدججة بالسلاح أمام البناية حيث أقطن، مع صراخ عنيف وطرق عنيف على الباب، بعد تفتيش البيت أخذوا اللاب توب، والريسيفير، والسخانة، والأركيلة والموبايل والكتب وأوراق كثيرة. قيدوني ثم مروراً إلى بيت خليل معتوق فاعتقلوا ابنته رنيم، ثم إلى بيت الصديق ناصر بندق ومروان حاصباني، تم اقتيادنا إلى فرع المنطقة 227، تعرضنا لضرب شديد. بقيت في فرع الأمن العسكري لمدة شهرين وحاولوا اتهامي بحيازة وتوزيع السلاح في درعا.
(جيهان أمين مع رغيد الططري)حين بدأ رئيس الفرع التحقيق معي أخبرته بعدم قانونية الاعتقال، فردّ على بشراسة: "أنتِ ونقابة المحامين تحت صبّاطي". سألني عن فائق المير وعن أسباب دفاعي عنه ، قلتُ له: "زوجته صديقتي وطلبت مني الدفاع عنه أمام المحكمة". كما سألني عن خليل معتوق وهيثم المالح. كما هددني إن لم أعطه أسماءً سيشبحني. كانت البراميل تسقط على داريا. كنا حوالي 22 امرأة في زنزانة ضيقة. بيننا امرأة مريضة طرقت الباب للسجان أسأله عن كأس ماء لها، فصفعني صفعة قوية أردَتني أرضاً. تم نقلي إلى سجن عدرا. بادر المحامون فوراً بإعداد ملف الدفاع وزارني كل من دعد موسى وابراهيم القاسم، وقد جلبوا لي بيجاما وبعض الثياب وشامبو للقمل وبعض المستلزمات الشخصية، كان وضعنا سيئاً للغاية. 19 يوماً في سجن عدرا ثم أخذوني إلى محكمة الإرهاب وكان القاضي محمد جمعة للأمانة أفضل من كثيرين، سألني عن قضية حيازة السلاح وتوزيعه في درعا. قلت له أن المسألة غير صحيحة لقد فتشوا بيتي وحتى سرقوا بعض أغراضي. خرجتُ في اليوم نفسه مساءً. لم يكسرني السجن.بين 2014 و2015، سافر كل من أنور البني وميشيل كيلو خارج سورية تحت الضغط والملاحقات الأمنية. كان أنور البني يساعدنا على المستوى المادي لتغطية وكالات المعتقلات. بالإضافة إلى صعوبة زيارة الأهالي المقيمين في محافظات خارج دمشق. كانت الزيارة بمثابة عمل شاق إضافة إلى ذلك سوء المعاملة.أنا ودعد موسى كنا نقوم بالزيارات، ومن ثم نتصل بالأهالي لنطمئنهم. كثيرة هي المخاطر التي تعرضنا لها. كنا نمشي من سجن الرجال إلى سجن النساء مسافة لا يستهان بها مع عدم السماح لأي وسيلة نقل بالمرور من هناك. ما أذكره أن امرأتين: مروة سليمان وفاتن رجب التقيتُ بهما في سجن عدرا، تم سيقهما من السجن إلى جهة مجهولة، ومازال مصيرهما مفقوداً. كنا نحاول تفادي اللقاءات الإعلامية لأننا لانريد أن نتعرض للاعتقال مرة ثانية. تابعت ملف المعتقلين والمعتقلات إلى ليلة السقوط ، تلك الليلة التي فتحت فيها أبواب السجون على مصراعيها. الطريق طويلة لكن الحرية لها طعم ساحر.