2025- 01 - 22   |   بحث في الموقع  
logo سلام أمام حائط مسدود: مشاروات التأليف عادت إلى المربّع الأوّل!.. عبدالكافي الصمد logo الكفاءة والجدارة والمحاسبة: أساس استعادة الثقة بالدولة والمستقبل.. (الرئيس فؤاد السنيورة) logo أي حكومة وأي وزراء: سياسيون أم تكنوقراط؟..(أديب نعمة) logo خطة ترامب لمسار لبناني-إسرائيلي منفصل عن سوريا! logo السوريون بتركيا يطالبون باهتمام الدولة.. افتتاح قنصليات أول الغيث logo إلغاء عقد تشغيل مرفأ طرطوس.. ماذا عن الفوسفات والنفط؟ logo تعددت الروايات والحقيقة واحدة: أطماع "الكتل" تحاصر سلام..(غادة حلاوي) logo عمليات تفجير إسرائيلية تهزّ الجنوب
عزيزي ديفيد.. سننظر لكعكة الدونت، لا للفجوة في وسطها
2025-01-21 14:25:46

توفّي المخرج السينمائي الأميركي ديفيد لينش، الخميس الماضي. هنا رسالة وداع إلى ديفيد، الفنّان الفذّ والرؤيوي الذي تركت أعماله أثراً في السينما قَلَّما تركه آخرون.
عزيزي ديفيد،
"الآن بعد رحيله عنّا، ثمة فجوة كبيرة في عالمنا"، كتبت عائلتك في فايسبوك الخميس الماضي لمشاركة الأخبار الحزينة بأنك استبدلت المؤقت بالأبدي. وأضافت: "لكن كما كان يقول، انظر إلى كعكة الدونت لا الفجوة التي فيها. إنه يوم جميل بأشعة الشمس الذهبية وسماء زرقاء لا نهاية لها".
جاءت الأخبار بشكل غير متوقع وصادمة لكل محبّي السينما الذين سُمح لهم بالانغماس في عالمك السوريالي على مدى العقود الخمسة الماضية. رغم أننا كنا نعلم أنه بعد حياة دامت 78 عاماً كمدخّن مخلص، كنت تعاني الانسداد الرئوي وصعوبة في المشي والتنفس. "وكأن هناك كيساً بلاستيكياً معلقًا فوقي"، اعترفتَ في مقابلة.
لقد علمّتنا يا ديفيد كيف نرى، ليس بأي طريقة كانت، بل في الأعماق، تحت سطح الفيلم، في أعماق الوجود الإنساني. كنت تعلم، مثل ستانلي كوبريك، وفيديريكو فيليني، وأندريه تاركوفسكي، وغيرهم من عباقرة الفنّ السابع، أن السينما وسيلة تصويرية، تولد من الصورة، وليس الكلمة. كانت كل لقطة تصوّرها تتنفسّ هذا الاعتقاد المقدّس. كانت أفلامك لوحات متحركة، وأحلاماً تدور، وألغازاً ترفض بعناد أن تُحلّ. فلا عجب إذن أن يطلق عليك ميل بروكس، منتج دراماك الفيكتورية "الرجل الفيل" (1980)، لقب "جيمي ستيوارت من المريخ".
لكنك كنت أكثر من مجرد صانع أفلام. لقد كنت صانع أثاث، رغم أن طاولاتك المتهالكة لم يكن بلها سوى ثلاثة أرجُل. كنت عازف موسيقى روك، رغم أن غيتارك كان يعزف ثلاثة أوتار فقط. كنت معلماً روحانياً، حتى رغم أن تفسيراتك للتأمّل التجاوزي كانت واضحة عادةً مثل صباح ضبابي في الغرفة الحمراء الشهيرة من مسلسل Twin Peaks.
لكن الأهم من ذلك كله، أنك كنت رسّاماً. حتى قبل أن تدرس في مدارس الفنون في بوسطن وفيلادلفيا في الستينيات. كانت لوحاتك مليئة بظلال داكنة وأشكال سوريالية، وكأنك تحاول التقاط عالمك الداخلي. كنت رساماً قبل أن تلتقط الكاميرا، واستمر ذلك جلياً في أعمالك. حتى في الكليب الذي أنجزته لأغنية Wicked Game لكريس إيزاك.
ومَن يستطيع أن ينسى انتقالك الرائع إلى التلفزيون؟ مع Twin Peaks - مزيجك المخلوط من تشويق وهجاء وسخرية وأوبرا صابون - لم تخلق مجرد مسلسل، بل ظاهرة. لقد أصبح مخططاً ثقافياً لكيف يمكن أن يكون التلفزيون أيضاً جريئاً ومثيراً للإعجاب، وما زال جيل كامل – في إثر عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي ديل كوبر - يتساءل عمَّن قتل لورا بالمر. ويفضّل أن يكون ذلك على نغمات ملحّنك المفضّل أنجيلو بادالامينتي.
أعمالك المراوغة - المولودة من إلفيس وروي أوربيسون وذا توايلايت زون وغيرها من الظواهر التي ميّزت طفولتك في الغرب الأوسط الأميركي في الخمسينيات - زاخرة بلحظات لا تُنسى ومزعجة ومربكة. كيف يمكننا أن ننسى الدجاجة الراقصة والطفل المخيف من Eraserhead، كابوسك بالأبيض والأسود الذي ظهر للمرة الأولى في 1977؟ أو افتتاحية فيلم Blue Velvet (1986)، حيث تتحوّل صورة حديقة الضواحي المثالية إلى عالم شرير من الحشرات الزاحفة؟ وماذا عن الرقصة المبهجة بين سيلور ولولا في فيلم Wild at Heart، نسختك الخاصة من ساحر أوز الذي حصل على جائزة السعفة الذهب في مهرجان "كان" العام 1990؟
ديفيد، لو كنت عربياً، لما حصلت أفلامك على قرش واحد من الدعم. ولما نجحت سيناريوهاتك - النزوية والمراوغة وحتى المجنونة - في اجتياز اختبارات اللجان البيروقراطية أو الجهات المانحة. في الأخير، أدركتَ أن القصص لا تعيش في كلمات أو خطوط، بل في صور ومشاعر، في صمت مظلم بين أضواء نيون وامضة أو خطوط صفراء على شريط من الأسفلت. لم تخلق "قصصاً" بالمعنى الكلاسيكي، لأن هذه مكانها الأول المكتبة، وليس السينما. صنعتَ أعمالاً فنية شاملة يستحيل تأطيرها بفورمات معيّن، ولكن، في الوقت ذاته، أمكنك إدخال الجمهور في تلك الحالة من النشوة المغشية أو ربما الذهول المفتون.
كنت أيضاً رجل طقوس. تبدأ أيامك بالتأمّل وغالبًا ما تنهيها بالطلاء على يديك. ومَن يستطيع أن ينسى تقاريرك الطقسية؟ بجدية لا تُضاهى، كنت تتنبأ بالطقس الجيّد عبر موقعك الإلكتروني كل يوم؛ حتى عندما كانت السماء تمطر بغزارة. وهو ما لم يحدث كثيراً في مسقط رأسك لوس أنجليس. كان الأمر وكأنك تريد إرسال القليل من الأمل إلى العالم، تذكيراً بأن لكلّ سحابة بصيص أمل. بغضّ النظر عن مدى قتامة الأمر وتهديده في بعض الأحيان. 950 يوماً/تقريراً، كأنها أفلام قصيرة مفاجئة، سرعان ما تنتهي بأمنية طيّبة وأملٍ بأن تشرق الشمس قريباً.
لم يكن العيش في عالمك سهلاً. كان مظلماً وفوضوياً ومخيفاً في بعض الأحيان. خصوصاً أنه كان مسكوناً بمخلوقات غريبة مثل بوبي بيرو وفرانك بوث والرجل الأبيض الغامض من فيلم Lost Highway. لكنك دائماً ما منحتنا وسيلة للتنقل في هذا الظلام. كما تقول عائلتك، "انظر إلى الدونت، لا الفجوة". كان هذا شعارك وحكمتك. حتى في أكثر اللحظات إزعاجاً، هناك بذرة أمل، ومضة من الجمال.
الآن وقد أصبحت ميتاً مثل ديك لوران، ما زالت أعمالك موجودة لترشدنا. رغم أننا لا نعرف حقاً إلى أين. حتى بعد محاولة فكّ ألغاز أفلامك وشفراتها مرات عديدة. لا تتركنا مع فجوات فحسب، بل تتركنا مع دونتس. دونتس لذيذ رائع. مع The Straight Story، على سبيل المثال، ذلك الفيلم الطريق الرقيق عن الشيخوخة والمصالحة بسرعة جرّار جون ديري، زائراً بين حقول الذرة الذهبية.
مع Lost Highway، ذلك الفيلم الجديد الذي يصوّر انفصام الشخصية والذي ترنّ فيه الهواتف وكأنها نذير شؤم ويتحوّل الكون إلى متاهة منوّمة من الهوية والشعور بالذنب. مع Mulholland Drive (2001)، حيث تجتذبك امرأة فاتنة إلى عالم موازٍ مطبوع بفقدان ذاكرة ورغبة متقدة. أو مع Inland Empire (2006)، غوصك الرقمي في العقل الباطن، مع تلك الأرانب العملاقة التي تتمتم بحوارات غامضة في إطار مسرحية هزلية.
تقدّم قصصك توهجاً دافئاً من الإلهام، مع صور عجيبة تستقر في أذهاننا ورؤية أكبر من الحياة نفسها. إنها مثل "القهوة الجيدة اللعينة" التي اعتدتَ بيعها: قويّة، داكنة، ودائماً ما يكون لها طعم غير متوقع. لذا أرقد بسلام، جيمي ستيوارت من المريخ، وشكراً لك. سننظر إلى الدونت، لا الفجوة. وعدٌ.



المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top