على خلفية انخفاض ما يستحق الاهتمام في محتوى معاهدة التعاون الإستراتيجي التي تم الوقيع عليها في موسكو في 17 الجاري، ولم تتضمن تعهداً بدفاع أحد الطرفين عن الآخر في حال تعرضه لعدوان طرف ثالث، توقف بعض الإعلام الروسي عند المظاهر التي رافقت الحدث. تأخر بوتين لمدة ساعة عن موعد اللقاء مع بيزيشكيان والوفد المرافق، أثار اهتماماً أقل بما لايقاس من التفاصيل الأخرى. إذ أن تأخر بوتين عن مواعيد اجتماعاته لساعات أحياناً، أصبح روتيناً معتاداً. واهتم البعض بتعابير وجيه بوتين وهو يرحب بالرئيس الإيراني، ومقارنتها مع تلك التي بدت على وجهه أثناء الترحيب بالرئيس الراحل إبراهيم رئيسي. لكن أكثر التفاصيل التي توقف عندها بعض الإعلام الروسي كانت الهدية التي قدمها بوتين للضيف الإيراني، سماور إعداد الشاي، الذي يعتبر أحد رموز التراث الشعبي الروسي، إلى جانب الماتروشكا وسواها مما كان يمكن أن يحل مكان السماور.للوهلة الأولى، ليس في الأمر ما هو جديد. فالإعلام يتناول عادة الهدايا المتبادلة بين زعماء الدول ورمزيتها. لكنه يتناول الأمر على هامش تغطية الحدث الرئيسي في اللقاء وما تحقق بشأنه، إلا إذا كانت رمزية الهدية تفصح عن موقف مقدمها المضمر من أهمية اللقاء ذاته.
لم يكن ملفتاً تقديم بوتين سماور روسي هدية للرئيس الإيراني، بقدر ما كان ملفتاً رد بيزيشكيان بقوله: "نحن أيضاً نسميه سماور (كما في الروسية)، ولدينا منه قدر ما تشاء". فالسماور منتج تراثي إيراني معروف، يحمله معه زائر إيران إلى جانب قرص الصلاة وسبحتها إذا كان شيعياً.تعددت تفسيرات المعلقين الروس لهدية بوتين. فمنهم من رأى فيها تقصيراً في الإعداد للزيارة، ومنهم من رأى فيها استهتاراً مشيناً بالقيم الثقافية للشعوب الأخرى. وكان لاذع السخرية تعليق أحد القراء الروس على فرضية عدم معرفة معدي الزيارة بأن السماور هو تراث إيراني أيضاً، كما في روسيا، حيث قال "ومن كان ليعرف أن الأتراك يعيشون في تركيا، والإيرانيون في إيران".
لكن التفسير السياسي الذي قال به بعض المحللين الروس، رأى في الهدية إشارة إلى أن بوتين لم يعد معنياً بالتوقيع على معاهدة تعاون استراتيجي مع إيران في الظروف الراهنة بالشرق الأوسط والعالم. لا شك أن بوتين كان معنياً بمثل هذه المعاهدة حين بدأ الإعداد لها منذ سنوات، وبقي كذلك حتى آخر موعد للتوقيع عليها في تشرين الأول/أوكتوبر المنصرم. لكن التطورات التي وقعت لاحقاً في المنطقة، وأدت إلى إضعاف إيران ومحورها، إضافة إلى عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وضعت بوتين في موقف حرج. فهو من جهة، لا يزال بحاجة إلى إيران وأسلحتها وموقعها في معسكر العداء للغرب، ومن جهة أخرى إعلان ترامب عن الاستعداد للقائه وما يحمله ذلك من احتمال كسب شروط أفضل بشأن الحرب الأوكرانية التي يصر الرئيس الأميركي على إنهائها.في تعليقة لشبكة CNN حول معاهدة التعاون الاسترايجي الروسية الإيرانية الذي نشره على موقعه في فايسبوك، قال الخبير الروسي المعروف بالشؤون الإيرانية Nikita Smagin بأن إيران تعجلت التوقيع على المعاهدة مع روسيا، على خلفية المخاطر المتعددة المحدقة بأمنها، والتي تفاقمت في نهاية العام 2024. وطهران يعتريها الخوف من عودة ترامب، وأعمال إسرائيل، وعواقب انهيار نظام الأسد وإخفاقات حزب الله.
وفي إشارته إلى غياب تعهد الدفاع المتبادل في المعاهدة، قال الخبير بأن إيران ليست على استعداد للتضحية بجنودها خارج حدودها، حتى في الشرق الأوسط، فكيف بالأحرى من أجل روسيا. وبالتالي لا ينبغي توقع رؤية إيرانيين على جبهات الحرب الأوكرانية.
ويرى أن روسيا بدورها، تتجنب التوقيع على اتفاقية المساعدة المتبادلة في حال العدوان، وذلك بسبب وجود تهديد حقيقي بشن ضربة إسرائيلية على إيران. وموسكو ليست مستعدة لمحاربة الدولة اليهودية من أجل طهران.
وفي تعليقات أخرى للخبير على موقعه في الفايسبوك يوم التوقيع على المعاهدة، انتقد في أولها تقديم بوتين السماور للرئيس الإيراني. وقال أن الأمر أشبه بأن يقدم رئيس الوزراء البريطاني كرة قدم إلى الرئيس البرازيلي ويقول له: "هناك لعبة إنجليزية تقليدية تسمى كرة القدم. ربما سمعت بها".
في تعليق آخر على المعاهدة على الفايسبوك باليوم عينه، قال Smagin أن الضوضاء في المعاهدة أكثر بكثير من المحتوى. وبشكل عام، هي مجرد صيغ بروتوكولية بحتة بهدف تطوير كل شيء، في كل مكان ودائمًا، لكن من دون أي شيئ محدد.وجهت "المدن" إلى رئيسة المركز الثقافي الشرقي والباحث الأول في معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم لانا راوندی فدایی الروسية من أصول إيرانية، عدداً من الأسئلة حول المعاهدة ووضع إيران وسط التغيرات التي طرأت في المنطقة.
رأت لانا أن المعاهدة تمنح الطرفين إمكانية ترسيخ مستوى التعاون بينهما الذي بلغه حتى الآن. والتعاون بين الطرفين يتطور بدينامية كبيرة، برأيها، وبلغ ما يكفي من النجاحات الكبيرة. ويعقد الطرفان آمالاً كبيرة على ممر النقل "الشمال- الجنوب" الذي يجري بناؤه، ويعد روسيا وإيران بمداخيل كبيرة.
كما رأت الباحثة أن سقوط سوريا ولبنان من المحور الإيراني والضعف الذي أصاب حزب الله، جعل وضع إيران في المنطقة أضعف بكثير، وهذا "كارثة جيوسياسية للبلاد". لكن إيران لم تخرج كلياً من المنطقة، إذ تبقى على ولائها لها الفصائل الشيعية العراقية والحوثيين في اليمن.
أما في ما يتعلق بالإيرانين أنفسهم، تقول الباحثة بأنهم منقسمون بين معارض وموالٍ للنظام. وأن الموالين يحملون حكومة بيزيشكيان المسؤولية عن سقوط نظام الأسد، في حين أن الكثيرين من المعارضة يسعدون بنجاحات إسرائيل، ويبتهجون بهزيمة حزب الله وسقوط الأسد، ويعتقدون أن سقوط نظام الأسد سيؤدي إلى إضعاف النظام الإسلامي إلى حد كبير.الصحافية الروسية المستقلة Yulia Yuzik التي اعتقلها الحرس الثوري في طهران العام 2019 بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، ولم يطلق سراحها من السجن بعد أيام، إلا بعد قيام حملة واسعة في كبريات الصحف الغربية وتدخل بوتين شخصياً، وجهت لها "المدن" أيضاً الأسئلة عينها.
قالت الصحافية إن المعاهدة التي درست نصوصها جيداً، تمنح روسيا وإيران إمكانية حفظ ماء الوجه. فالطرفان واصلا على مدى سنوات عديدة الترويج للمعاهدة على أنها تغيير جيوسياسي للعالم وتشن الحرب على الغرب والدولار.
ترى الصحافية أن إيران التي تستعد لمعاهدتها الحقيقية مع ترامب، وقعت مع بوتين على معاهدة فارغة وكأنها إعلان نوايا حسنة. ولإظهار الاحترام لبوتين، ضم بيزيشكيان إلى الوفد المرافق تقريباً جميع أعضاء حكومته ومستشاريهم. ويبدو أن الإيرانيين افترضوا أنه، إذا لم ينجح الأمر مع الأميركيين، تبقى موسكو نافذة دبلوماسية ثانية. وتعابير وجه بوتين كانت توحي بأنه أدرك أن الدبلوماسية الفارسية قد تفوقت عليه، لكنه لم يستطع إلغاء كل شيء، لأن ذلك كان سيضر بصورته. لذلك حاول كلا الجانبين التظاهر بأن كل شيء على ما يرام.وعن تأثير تطورات المنطقة الأخيرة على وضع إيران في المنطقة ورد فعل الشعب الإيراني على ذلك، قالت الصحافية بأن إيران بعيدة كل البعد عن أن تكون دولة متجانسة. وتذكّر بأن "الحركة الخضراء" العام 2009، كان من بين الشعارات التي رفعتها شعار"لا غزة ولا لبنان، أقدم حياتي في سبيل إيران".