يوم طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأوّل لعام 2023، وضعت إسرائيل أهدافاً لعملياتها تتلخص بالقضاء على حماس وإعادة الأسرى من دون تفاوض. وبعد أيام من الطوفان في نهاية شهر تشرين الأوّل، أوردت صحيفة "إسرائيل اليوم" خبراً مفاده أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يهدف إلى تهجير أهل غزة إلى خارجها. ومنذ ذلك الحين، بدأت الحملات العسكرية الوحشية الإسرائيلية ولم تتوقّف إلاّ في التاسع عشر من شهر كانون الثاني الجاري. منذ انطلاق الطوفان، عمل نتنياهو بكل ما أؤتي به من خبث ومكر وكذب على عرقلة كلّ اتفاق ممكن، حفاظاً على وجوده السياسي، ومصالحه الضيقة وتحالفاته الهشة. وقد بات معلوماً أنّ الاتفاق الذي وُقِّع الآن هو الاتفاق نفسه الذي تمّ التوصل إليه في أيار 2023، والذي أعلن عنه الرئيس الأميركي جو بايدن، ثمّ ادّعى أنّ حماس عملت على عرقلته. خاصية الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب المعروف بقيامه بغير المتوقع أرغمت نتنياهو على الخضوع لإرادته في وقف الحرب. ففي حين أنّه لم يعد لدى حماس ما تخسره من تهديدات ترامب، لدى نتنياهو كلّ ما يخسره إذا لم يستجب، لا سيّما بعد قيام موفد ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيفين ويتكوف، بجر رئيس الوزراء الإسرائيلي للاجتماع به صبيحة يوم السبت المقدس من دون إبطاء، بخلاف المعمول به لجهة عدم عقد اجتماعات قبل مساء السبت. يعلم نتنياهو علم اليقين أنّ ترامب لن يكون للحظة مع القضية الفلسطينية ولن يسمح بإقامة دولة فلسطينية ولا تعنيه حقوق الشعب الفلسطيني، بل يعتقد أنّ الرئيس الأميركي المنتخب سيتيح لإسرائيل الإمعان بخرق القرارات الدولية والاستيطان والقمع والقتل، من الضفة الغربية إلى لبنان وسوريا من دون حساب أو محاسبة. وهذا تحديداً ما قد يدفع نتنياهو لاقتناص أوّل فرصة تُسنح له للانقضاض على الاتفاق والانقلاب عليه، فلا يخسر السلطة ولا تحالفاته ولا محاولة ظهوره كمنتصر في الحرب. ولعلّ ما ينتظره نتنياهو من ترامب هو السماح له بالعودة إلى الحرب على غزة عند أوّل خطأ أو صدفة بعد إطلاق أسراه من دون تردّد. وهنا لبّ الرهان.حماس والمقاومة والبيئة الحاضنة صبيحة الأحد الواقع فيه التاسع عشر من كانون الثاني، أصدرت وزارة الداخلية والأمن الوطني التابعة لحكومة غزة بياناً أعلنت فيه أنّ أجهزتها الأمنية ستنتشر في جميع مناطق القطاع، لحظة دخول الاتفاق حيز التنفيذ، بهدف خدمة المواطنين، استكمالاً لعملها الذي واصلته خلال الحرب في ظروف بالغة التعقيد، وتصدّت خلالها بكلّ ما تملك لمحاولات إسرائيلية لإشاعة الفوضى والفلتان. خرجت إذن حماس بكامل مشمشها حسب قول الشاعر محمود درويش، برجالها وسلاحها وسيّاراتها النظيفة لتردّ على ما قاله نتنياهو يوم الخامس من أيار للعام الماضي، قُبَيْل الصفقة التي لم تُنَفّذ رغم بيان بايدن، "الاستسلام لمطالب حماس سيكون بمثابة هزيمة نكراء لدولة إسرائيل، نحن لسنا مستعدين لقبول وضع تخرج فيه كتائب حماس من مخابئها، وتسيطر على غزة مرة أخرى".
أكثر من 250 يوماً مرَّ على تصريح نتنياهو و470 يوماً على انطلاق العدوان الإسرائيلي، أظهرت تعهدات نتنياهو كأنها وهمٌ وسراب. غير أنّ الواقع الغزاوي يكشف نقاطاً عدّة يجدر التوقف عندها:أولًا: مُنِيَت غزة بخسائر بشرية ومادية هائلة. فقد تعمّد الاحتلال طيلة فترة العدوان استهداف البيئة الشعبية للمقاومة لجعلها تدفع ثمناً باهظاً لدعمها لها خلال فترة العدوان، قاصداً أيضاً ممارسة ضغوط بالدم والنار على قادة حماس والعمل على نزع الغطاء الشعبي عنهم. لقد تعامل الاحتلال مع غزة على اعتبار أهلها وبنيانها ومدارسها وجامعاتها وبناها التحتية أهدافاً عسكرية، وقد وسّع عمليات القتل بين المدنيين كونه كان يتعامل مع قطاع غزة بأكمله كحركة مقاومة شعبية. ثانياً: في كانون الأول 2023، هاجم نتنياهو مقترحاً فلسطينياً يتضمّن أن تكون حركة حماس شريكة في حكم غزة بعد الحرب، قائلاً: "لن تكون هناك حماس في اليوم التالي للحرب، سوف نقضي عليها". غير أنّ صبيحة الأحد، كشفت بالعين المجردة أنّ كتائب القسام أعادت بشكل أو بآخر ترميم قدراتها البشرية، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي، أنطوني بلينكن، في حديثه الوداعي عن المنطقة. ثالثاً: منذ أيار 2024، أراد الجيش الإسرائيلي وقف الحرب التي توقّفت الآن وفقاً للبنود السابقة نفسها، غير أنّ إدارة نتنياهو لم ترد ذلك لأسباب تخصّ نتنياهو وحلفائه في الحكومة.رابعًا: فشل الاحتلال فشلاً ذريعاً في إدارة القطاع عبر توزيع المساعدات، وفشل في خلق إدارة ذاتية سواء من العشائر أو التكنوقراط، على الرغم من تواصله مع شخصيات كثيرة للقيام بهذا الدور. خامساً: أثبت الفلسطينيون في غزة، شعباً ومقاومة، أنّ قدرتهم على الصمود مذهلة وهذا ما سيترجم خلال عقود مقبلة لغير مصلحة إسرائيل، ولغير مصلحة السلطة الفلسطينية القائمة اليوم في الضفة الغربية تحديداً وبشكل خاص.
وفي النهاية، يتضح ممّا سبق، أنّ العالم كلّه ومنطقتنا يتعاملان مع وصول ترامب إلى الحكم في واشنطن، على قاعدة أنّ ما ينتظرنا حقبة جديدة وقواعد جديدة وظروف جديدة ستحكم العالم برمّته. يستنتج المراقب أنّ تأثير ترامب على إسرائيل أكبر بكثير من تأثير الإدارة السابقة، وقدرته على إجبار الآخر على التكيّف بما يخدم مصلحته، من لبنان إلى إيران إلى أوروبا وكندا والدانمارك والصين، هو السمة الحالية. وعلى الرغم من ذلك، سيلي حفل تنصيب ترامب أشهر عدة من الترقّب والحذر كي يُبنى على الشيء مقتضاه. وأخيرًاً، من المؤكّد أنّ الحروب التي تدور في المنطقة وسط تدخلات إقليمية، من السودان إلى ليبيا وصولاً إلى الصومال واليمن، مدمّرة تقتل البشر وتطحن الحجر. غير أنّ الفارق بينها وبين ما جرى في غزة، هو أنّ محرّكها احتراب داخلي على السلطة وصراع إقليمي-دولي على النفوذ والثروات، أمّا في فلسطين فالصراع صراع قيَم وحقّ بوجه محتل غاصب، وشتّان ما بين احتراب داخلي، ومواجهة احتلال، وظلم وعدوان.
ولنا أن نردِّد مع الغزيين بكل فخر:
سوف نبقى هنا كي يزول الألم
سوف نحيا هنا سوف يحلو النغم.