ليس من قبيل المبالغة القول إن ما شهدته عملية تشريع قانون العفو العام من خلافات وجدال وصلت حد تبادل الاتهامات، لم تشهده قبة البرلمان منذ سنوات وما تم تشريعه من قوانين خلال تلك الفترة.
باختصار شديد، فإن الهدف من القانون هو محاولة إيجاد صيغة سياسية وقانونية تضمن إعادة محاكمة عشرات الاف من السجناء من السُنة العرب، الذي تم اتهامهم بالإرهاب بتهم كيدية، خلال فترة الحرب على داعش.
فالاعتقاد السائد أن أغلبية هولاء كانوا إما ضحية لوشاية المخبر السري، أو محاكمات قضائية جرت في ظروف كانت جميعها مهيأة للحكم بأشد العقوبات ضد كل من يتم اتهامه بالإرهاب، وأن الاعترافات التي شكلت الأساس في إصدار أحكام بالسجن أو الإعدام، تم اُنتزاعها بالقوة نتيجة عمليات تعذيب تعرض لها المتهمون.
مثّل القانون في جزء مهم منه، حاجة ملحة تمثلت بضرورة إعادة الاعتبار لقوانين العدالة الاجتماعية التي غابت كثيراً خلال الفترة الماضية لاعتبارات عديدة يقف في مقدمتها الصراع الطائفي الذي تغلب في كثير من مفاصله على مبدأ تحقيق العدالة والمصالحة الوطنية.
ليست المرة الاولى التي يتم فيها وضع مسودة القانون أمام البرلمان للتصويت عليه. لكن في كل مرة كانت الخلافات التي لا يمكن إغفال الجانب الطائفي فيها، تحول دون امكانية تمريره.
تعتقد كتل برلمانية، خصوصاً الشيعية منها، أن القانون يمكن أن يمهد الطريق لإطلاق سراح من ارتكب جرائم وفق قانون الارهاب. وهو موقف تعارضه القوى السنية التي تقول إن إعادة المحاكمة لا تعني بالضرورة إطلاق سراح كل من سيتم إعادة محاكمته.
انعدام الثقة
ولضمان تشريعه، فقد أصرت القوى السياسية السُنية التي اشتركت بتشكيل الحكومة الحالية قبل أكثر من عامين، على تضمينه للبرنامج الحكومي لحكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني.
وهكذا، بات تشريع القانون يمثل جزءاً من الإيفاء بالتعهد الذي التزمت به القوى السياسية التي اشتركت بتشكيل الحكومة، وأبرزها الاطار التنسيقي الشيعي الذي يمتلك الاغلبية البرلمانية.
وبعيداً عما يبديه المعارضون من أسباب تحول دون تمرير القانون، فإن التساؤل الذي يقف عنده الجميع هو، لماذا هذا الموقف رغم أن الجميع اتفق وتعهد على تمريره؟
والجواب على هذا التساؤل يتلخص بانعدام الثقة وغياب حسن النية بين القوى السياسية التي يتشكل منها المشهد السياسي العراقي.
مثّلت هذه النقطة سبباً رئيسياً في عدم إيجاد أرضية مشتركة قادرة على إيجاد بيئة سياسية صحيحة، ولو بحدودها الدنيا، يمكن أن تؤسس لشراكات سياسية، وبالتالي خلق منظومة حكم وطنية لحكم البلاد.
وهكذا، لم يعد سهلاً توقع تشريع قانون يمثل بشكله العام، رغبة جامعة لمكون ما دون وجود معارضة (غالباً ما تكون أبعادها طائفية)، تؤدي في نهاية المطاف إلى عرقلة تمريره، أو على الأقل إخراجه من محتواه من قبل قوى المكون الاخر، خصوصاً عندما تتوفر الأغلبية البرلمانية.
قوانين السلة الواحدة
ونتيجة لهذه الحالة، لم يكن مفاجئاً ولا مستغرباً بروز حالة "الابتزاز" السياسي في السنوات الأخيرة. هذه الامر أنتج ما بات يُعرف بـ"قوانين السلة الواحدة"، التي باتت تفرض نفسها كثيراً على المشهد داخل قبة البرلمان.
فالقوانين الجدلية التي يصعب حصولها على الأغلبية لتمريرها داخل البرلمان، ينتهي الأمر بوضعها في سلة واحدة لتمريرها والتصويت عليها جميعاً في جلسة واحدة.
وهكذا، فقد تم وضع مسودة قانون العفو في سلة واحدة مع مسودة تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي يطالب الشيعة بتمريره، ومسودة قانون إعادة الأملاك (العقارات) المصادرة إلى اصحابها في محافظة كركوك والذي يطالب الأكراد بتشريعه، وهما قانونان يواجهان اعتراضات برلمانية وغير برلمانية حالت دون إمكانية تمريرهما وتشريعهما.
ومع كل هذه المحاولات، فقد عبّر العديد من النواب عن شكوكهم بإمكانية تمرير قانون العفو. وعزا هؤلاء موقفهم إلى أن التجاذبات الطائفية ستحول في نهاية المطاف دون إمكانية تمريره.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد عمدت قوى سياسية نافذة إلى تضمين قانون العفو فقرات تضمن إعادة محاكمة سجناء على خلفية اتهامهم بارتكاب قضايا فساد إداري وسرقة المال العام، وهو تطور شكّل حالة من الغضب الشعبي تجاه القانون نفسه.
وكنتيجة لهذه التطورات، أعلنت قبل أيام كتلة "تقدم" البرلمانية التي يتزعمها رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، والتي تمثل الثقل البرلماني الأبزر للسنة العرب داخل مجلس النواب، مقاطعتها جلسات البرلمان ما لم يتم التصويت عليه. لكن الكتلة عدلت عن موقفها مؤخراًـ بعد الاتفاق على جدولة القانون للتصويت عليه في سلة واحدة مع القانونين الاخريين.
وسواء مُرّر القانون في الأيام المقبلة أم لا، فإن تقاطعاته ومآلاته مثّلت في جزء كبير منها، الحال الذي انتهى إليه المشهد السياسي العراقي الذي لا تزال تحكمه المصالح الضيقة بعيداً عن المصلحة الوطنية.
إن غياب التوافق تجاه قضايا وقوانين رئيسية جامعة، لا يزال هو المشهد المتحكم. قوانين كان يمكن أن يساهم تشريعها بإصلاح المجتمع العراقي وبالتالي تعزيز حالة الاستقرار وأيضا مداواة النسيج المجتمعي الذي تمزق كثيراً في العقدين الماضيين.