(*) لم أكن أجد نفسي في طريقي إلى البستان قرب النهر مرورًا بالأحياء القديمة إلّا وأنا أتأمّل حيطانها. أجمد لوهلة قبالتها وأغمض عينيّ محاولًا أن أتخيّل الناس الذين سكنوا خلفها كيف استطاعوا في خضمّ المآسي التي عاشوها لسنوات طويلة، التقاط أنفاسهم الضئيلة؟
الحيطان المتقشّرة كأفواه تتأوّه، كلوحات علّقتها يدُ النسيان، كشفاهٍ تهمس سرّاً حكاية الزمن.الحيطان التي تموت ليلًا من الرطوبة، ثمّ لحظة تضربها الشمس من جديد، يفوح الصباح من طيّاتها، وتعود المفاتيح إلى أبوابها، ويتراءى للعابر بجانبها أنّه لا يزال طفلًا صغيرًا يسمع صرخة بكائه الأولى فيفرح.الحيطان التي إذا ما أبصرها المرء، استبدّ به عطشُ البحث عن الماضي، فعبرَ من القلب خطوة ومن الروح خطوات، ووُلد كأغنية منسيّة.تلك الحيطان التي بقيت على حالها تتنفّس من بريق ماضيها، هي بعضُنا الذي مات. لو كان لها أن تنطق، ما الذي كانت لتقوله؟ من دون شكّ، كانت لتعيدني إلى عالم لا أعرفه شخصيًّا لكن لطالما تناهت إليّ أحداثه من خلال ذاكرة جدّي وجدّتي ووالديّ وأقربائي وسكّان بلدتي الذي يكبرونني سنًّا، أحداث تعود إلى مرحلة التقاتل الأهليّ العبثيّ التي على ما يبدو قد تمّ إشعال فتيلها أوّلًا في الأطراف عن سابق تصوّر وتصميم لتعود فتستعر وتطال البلاد برمّتها كما لو أنّها كانت ضربًا من البروفا، والتي اشتدّت وطأتها في خمسينات وستّينات القرن الماضي ولم تُفضِ إلّا إلى المزيد من التنابذ والكراهية في حين كان لبنان يعيش في أوج ازدهاره الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. حينها كان مجتمعنا ذكوريًّا، متسلّطًا، تبعيًّا ومنقسمًا إلى عائلات تتصارع على الزعامة متحيّنة أدنى فرصة للانقضاض والثأر بعضها من بعض في أزقّة نحيلة بالكاد تبلغها الشمس يلفّها العوز من كلّ حدب وصوب وتعبرها وجوه صفراء كالحة متعطّشة للدماء، حتى إذا ما هدأ الجوّ قليلًا وبرد الدم كأنّه لاحت هدنة في الأفق، عاد المصير المشؤوم إلى ما كان عليه في السابق، حيث يكرّر القدر المحتّم نفسه، ودورات العنف الأشبه بسلسلة محكمة الإقفال، تتجدّد باستمرار. كانت بلدتنا في تلك الفترة مكانًا لا يودّ أحد التواجد فيه، خصوصًا بعد مرور عام على مجزرة وقعت سنة 1957 في كنيسة تهاوى القتلى في داخلها كورق اللعب. كان من الصعب وصف مشاعر الخوف المتنامية بعد تلك الحادثة، كانت أشبه بالتنميل المؤلم الذي يحدث عند عودة الإحساس بعد خدر، فاستأنفت الحياة قسوتها. الدم غطّى التراب واحتار الناس بلا حول ولا قوّة، ومن داخل البيوت الفقيرة الرطبة انبعثت رائحة الجثث. نزوح وهجرة.كانت النفوس شاحبة متشائمة يسكنها الفزع واليأس والقلق.كان زمن الرصاص، والنار، والموادّ المشتعلة، والسموم، وعواصف الحقد والثأر، والغبار الذي يلتفّ حول الناس كالأفاعي، يربطهم، يخنقهم، كلّ شيء يصرخ، يحترق، ينهدم، الأرض تفتح شدقيها تبتلع الناس، تمضغهم، تطحنهم، تهضمهم، ثمّ تبصق الجميع. وقد تعزّزت مع السنوات أداءات زياد الموسيقيّة في هذه البلدة التي خرجت لتوّها من حرب عائليّة استعرت فيها نار الثأر وتكاثرت الجثث، لتغرق في كارثة اقتصاديّة مزّق فقرها وبطالتها نسيج مجتمعها. فمَن لديهم وظائف انتابهم الخوف من فقدانها، ومَن لا يستطيعون تحمّل تكاليف العيش سافروا أو صاروا مشرّدين، أصيبت العلاقات الأُسريّة بأسوأ درجات التفكّك وظهر متسوّلون أكثر عند مفارق الطرق الجانبيّة ينادون بأصوات مشروخة. لذا لم يكن للشباب أيّ ذكريات طيّبة تعزّيهم عن تلك المرحلة التي فرّقتهم بعضهم عن بعض وهم كانوا لا يزالون تلاميذ على مقاعد الدراسة حيث لم يجدوا سبيلًا سوى أن التجأ كلّ واحد منهم إلى حيّه الضيّق يحتمي فيه بمواجهة الحيّ الآخر، غير أنّه ما أن اندلعت بعدها الحرب الأهليّة سنة 1975، أو ما عُرف بحرب السنتيْن، عادوا فتلاقوا على جبهة واحدة دفاعًا عن البلدة، فاشتدّ أزر صداقتهم من جديد بعد أن كان قد انقطع لسنوات مديدة، فكانوا يكتفون أحيانًا في الليالي الهادئة نسبيًا بنزهة في سيّارة فريد، هو يقود وزياد إلى جانبه بينما يجلس بيار ووالدي في المقاعد الخلفيّة، يفرج كلّ منهم عمّا في داخله نافثًا الكلمات مع دخان سيجارته في ليل السيّارة التي يركنونها على تلّة مجاورة بينما ترتعش في البعيد أضواء البلدة الخافتة. لكن ما إن بدأ لاعب الأرغن بإطلاق لمساته الدافئة من داخل المسجّلة معلنًا بداية المقدّمة الموسيقيّة للأغنية، حتى عمّ السكون. أخذوا نفَسًا عميقًا، لم يُعرف إن كان من رئاتهم أم من سجائرهم، واسترخوا في مقاعدهم. افتتح زياد الحديث يخبرهم كيف يتميّز هذا الشريط الغنائيّ الذي صادف صدوره اندلاع الحرب الأهلية، بجعل الأغاني المتنوّعة متناغمة من خلال ميلوديا مشتركة بينها سواء بنغمة أو بإيقاع، تلاه بيار عن ولعه الصاعق بالكتابة كيف يدوّن من حين لآخر على دفتر صغير يحمله معه أينما ذهب، جُمَلًا تشبه هواء شجرة أو طيف غيمة، يكتبها بالمفرّق ثمّ يعيد صياغتها بالجملة، ووالدي مستندًا بصمت إلى نافذة السيّارة رأسه على الزجاج شاردًا كعادته في لا شيء. ثمّ لحظة دخل غازف الغيتار الكهربائي إلى الأمام كأنّ لاعب الأرغن صار خلفيّة له، ضاربًا أربع نوتات موسيقيّة جاعلًا إيّاها ترنّ وتاركًا صداها يتردّد في المدى قدر الإمكان، تمتم فريد من قلب مجروح "وصلت الجثّة"، وحين أعقبها الموسيقيّ بدفعة ثانية من النوتات نفسها إنّما بصوت أعلى هذه المرّة، أردف فريد ثانيةً "فتحوا درفتَي الباب ووضعوا السرير في منتصف الغرفة". هكذا تراءى لهم وهم يصيخون السمع إلى تلك النوتات المذهلة في السيّارة، كيف أدخلوا الجثّة إلى البيت وألقوا بها فوق السرير يعتنون بها أشدّ عناية، يأتونها بأجمل الثياب وأفخم العطور، ويجلبون لها مُزيِّنًا يقوم بتنظيفها وحشو فراغاتها بالقطن المُطهَّر وندّابة تنثر صوتها الشجيّ فوقها لتلاقي ربّها بأبّهة، ما جعل المشهد المأساويّ يتناسب بشكل مذهل مع الأغنية فبدت أنّها كُتبت خصّيصًا له. ومن غريب المصادفة أنّ الأغنية كانت تبدأ بهذه الكلمات: "تذكّرْ حين كنت بالأمس/ يافعاً تشرق كالشمس/ واليوم نظرتُك ثقبٌ أسود/ شُعّ أيّها الماس الأخبل"، كأنّها تنشد برثاء متفجّع فتوّة الشاب المسجّى على السرير والذي كان قد قُتل بعمليّة ثأر بغيضة وقعت في الحارة التحتيّة حيث يعيش فريد مع أهله. غير أنّ الماس، في المقابل، لم يشعّ من جديد، فروجر المغنّي والعازف الأساسيّ وكاتب الأغاني، كما عرّفهم عنه زياد تباعًا، لطمه ذات يوم هواء غريب فاستأذن باقي أعضاء الفرقة بتصرّف غير متوقّع في إحدى جلسات التمرين حيث نهض فجأة كأنّ جنونًا مسّه ومشى بلا عودة، وحين عاود الظهور بعد ثماني سنة تقريبًا مفاجئًا إيّاهم في إحدى جلسات التسجيل في الاستوديو، لم يتعرّفوا عليه للوهلة الأولى، كان قد تغيّر شكله الخارجيّ بشكل فادح وبدا أنّه أُصيب بمرض عقليّ حوّله إلى شخص منزوٍ وكئيب. هذا "الماس"، روجر، الذي كان يشرق كالشمس في صباه، انكمش بريقه فجأة واختفى، ممّا جعل بيار يتخيّله يركض على أنغام موسيقاه المفعمة بالزمن، عابرًا حديقة قلعة شاسعة ليجلس قليلًا فيرتاح على دكّة خشبيّة غير مصقولة عند طريق يمتدّ إلى أعماق الغابة. الدكّة والطريق يساعدانه على تعقيدات الحياة، وكلّما تعثّر في مهمّة صعبة فكّر في العودة إلى الغابة حتى يتبيّن طريقه. لذلك امتلأت كلمات أغانيه بصور الأشجار الداكنة، وبدت نغماته الموسيقيّة أشبه بضوء الغابة الأرقط المتسلّل بخفر من خلال أوراق تلك الأشجار.ثمّ ما لبث أن أضاف زياد مستعرضًا معرفته الموسيقيّة "أوه ماذا يمكن أن نقول؟ كان روجر هو الأصغر والأضعف والأكثر جموحًا، لكن الأكثر انعدامًا للفائدة، ورغم ذلك كان يقود الفرقة بكامل أعضائها. ابتدع أسلوبًا موسيقيًّا غريب الأطوار، اعتمد فيه كثيرًا على إدخال الصوت وإعادته ممّا كان يولّد موجة من التذبذب في حركة ارتجاعيّة بإيقاع منتظم. هذا التكرار الارتجاليّ المفتوح حتى على التشوّه والتنافر، ساهمَ بولادة موسيقى سايكداليّة معاصرة. يبدو أنّه هو الذي فتح الأبواب الغريبة لتلك الموسيقى العجيبة، لكنّه سقط على عتبتها فسحبَ باقي أعضاء الفرقة خيطًا منه وعبروا عليه. ربّما هذا النوع من الإبداع الهوَسيّ الذي تمتّع به كاشفًا النفس ومستكشفًا جماليّات حسّية وإدراكيّة تحت تأثير عقاقير مُخِلّة في حين كان لا يزال في العشرينيّات من عمره، هو الذي أصابه بالأذى الشديد جرّاء تضخُّم الإدراك لديه واتّساع الهذيان والأوهام. قيل إنه أُصيب بانفصام الشخصيّة، لكن يبدو أنه عانى من مشاكل جرعة مفرطة غيّرت فجأة شخصيّته وسلوكه، وقد طلبت أمّه من أعضاء الفرقة أن لا يتّصلوا به بعد اليوم لأنه حين يتذكّر الفرقة يبقى مُصابًا بالاكتئاب لأسابيع. حينها، وفي تلك المرحلة بالذات، كان يتمّ تجريب العديد من أنواع المخدّرات، ومنها الأسيد "الدينيّ" كما يُطلق على ذاك النوع الذي تعاطاه بكثرة كأنّه كان بذلك يمخر عباب مغامرة روحيّة، ممّا جعله يصبح قدّيسًا لثقافة موسيقى الأندرغراوند وقد دفع به ذلك إلى انطواء طويل." هنا أخذ زياد نفَسًا قصيرًا ثمّ أردف بحزن "لا تستبعدوا الأمر كثيرًا يا شباب، خذوا الأدب والكتاب المقدّس مثلًا، يمتلئان بنماذج من الناس الذين أنشدوا العزلة في حياتهم، أصحاب رؤى، هاموا في الصحاري البعيدة مبحرين على عاتقهم، ومنهم مَن قُدّر له أن يقوم بالتبشير كرسالة له في هذا العالم. فالفكرة تقول إنّ قدرًا يرتسم لبعض الأشخاص قويًّا لدرجة أنّهم يتبعونه كالعميان مأخوذين به بكامل رغبتهم رغم الثمن الباهظ الذي يتوجّب عليهم دفعه على الطريق. هؤلاء يتقدّمون شاخصين بأنظارهم إلى الأمام ولا يعود بمقدورهم أبدًا أن ينظروا من فوق أكتافهم إلى الوراء. هكذا كان روجر قد انتهى إلى مثل هذه النهاية المحزنة. وحتى عندما سأله صحافيّ في آخر أيّامه ممتحنًا استقامته العقليّة "ما اسمُك يا روجر؟"، أجابه "دعني وشأني، عليّ الآن أن آكل سلَطة الكولسلو".بعد مرافعة زياد الطويلة والغنيّة بالمعلومات، وكأنّه قد درس وقتها من قبل، انتهى المقطع الأوّل للأغنية الذي كان مقدّمة موسيقيّة لها، بضربات بيانو مرهقة لننتقل منه بلا فاصل ‘إلى المقطع الغنائيّ، وعلى مدى الدقائق التالية سار كلّ شيء على نحو سلس ومنتظم، كلّ علامة موسيقيّة أدّت إلى التي تلاها، كلّ شيء متوازن، فيما كان والدي لا يزال ساهيًا على زجاج السيّارة وبيار يفكّر بشيء غامض ليضيفه، بينما كان زياد يرفع قنّينة البيرة إلى شفتيه ويحرّكها بانسياب مع الموسيقى ليضعها بعدها على تابلو السيّارة أمامه ثمّ يعاود فعلته هذه مرارًا وتكرارًا إلى أن انتهت الأغنية.ليلتها كان الكلّ في السيّارة يدرك، حتى المغنّي بصوته المعذّب من داخل المسجّلة، أنه ما أن تنتهي الحرب حتى تبدأ أخرى، وسواء انتصروا أم خسروا سوف يكتشفون فيما بعد أنهم كانوا ضحايا، ومن المؤكّد أنّ أعضاء كثيرة سيصيبها التلف، وستشتدّ رائحة العفن في الجوار، وبطبيعة الحال ستدخل جثّة جديدة إلى الحارة ولن يكون من السهل التخلّص منها.(*) فصل من رواية قيد الكتابة.