فرحتُ كثيراً بانتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، وتضاعفت الفرحة بتسمية القاضي نواف سلام رئيساً للحكومة. إنما، وعلى الرغم من وجاهة كل من الحدثين، فإن أكثر ما لفتني في الحدث الثاني هو ملامح وجوه النواب أثناء المشاركة في استشارات تسمية رئيس الحكومة في القصر الجمهوري، وبصراحة القول أكثر ما شدّني في هذا الصدد ملامح نواب "كتلة الوفاء للمقاومة" والتي تُكره المرء على اتخاذ الحيطة والحذر والإرتياب مما هو آت.
كثيراً ما يقال إن الوجه، عبر ملامحه وعبر ما يرتسم فيه من تقاسيم، هو انعكاس للروح... فالوجه هو خريطة الروح بشكل من الأشكال. لكن، ماذا حين تكون هذه الملامح وسيلة لتدجين الواقع بما يتناسب مع مآربها، مع مآرب هذه الملامح الغامضة والعصية على الإنشراح في آن معاً؟
لا شك أن الإداء الجسدي بصورة عامة، وملامح الوجه بشكل خاص، هي في بعض مندرجاتها وسائل لتعيين حضور المرء في العالم. فهي بمثابة النسخة المعدّلة عن العالم أو النسخة المشتهاة منه.
إن عالم اللبنانيين يوم تلك الإستشارات في القصر الجمهوري، كان مفعماً بضروب نادرة من التفاؤل والإقبال الحيوي على العالم. بيد أن ثمة وجوهاً أبت عبر ملامحها في تلك المناسبة إلا حشر عالم التفاؤل هذا في سردية تقوم بالحد الأدنى على تقطيب الجبين، وصولاً إلى متعة الإنصياع إلى أبد الفجيعة، وكأننا عبر تلك الوجوه أمام عبوس الزمان في هذه الجغرافيا التي تدعى لبنان.
أنا ممن يرون في الوجه، المادة الخام لعلاقة الإنسان مع الآخرين. بيد أن الطامة الكبرى تقع عندما يكون الوجه محكوماً ببُعد واحد هو بُعد الكارثة، بُعد التعطيل وبُعد الحياة التي تقع على الدوم عند حافة الهاوية. إن الصياغات الدوغمائية للجسد، وللوجه منه بشكل خاص، تحمل على الظن بأن صاحب هذا الوجه يستلّ ملامحه من جثة، ذلك أنه وفي ما يتعلّق بالجسد عموماً، الجثة هي الجسد في أقصى دوغمائية ممكنة.
على الرغم من كثرة الكلام في يوم الإستشارات ذاك، ثمة وجوه أكّدتْ بعمق عبر يباب ملامحها، أن في العالم أحداثاً، مهما كثر الكلام حولها، يبقى نَصّ الوجه هو صياغتها الأخيرة. قد تكون في الأمر محاولة من قِبل هؤلاء لترويض أمزجة الناس مع يبوس ملامحهم. ربما عبر هذه الملامح، يريدون من الآخرين، فكّ الإرتباط مع التفاؤل ومع الحياة ومع مسارب الأمل المفقودة في لبنان منذ عقود وعقود. لكن، وعلى الرغم من قوة هذه الملامح وعنفها، فإنها أثناء ذلك "الإحتفال" بتسمية نواف سلام رئيساً للحكومة، كانت أقرب إلى ملامح طارئة... ملامح متطفلة على مزاج اللبنانيين بعامة.
قد تتماهى ملامح المرء مع اتساع السماء ومع بحبوحة الأرض الخيّرة، قد تتبنى هذه الملامح الأفق المفتوح (تحية في هذا السياق للنائبة غادة أيوب)، وقد تتبنى نزوع الإنسان إلى التفاؤل والعيش الكريم. إنما، أن يختزل الوجه ملامحه إلى حدود الحائط، فإن في الأمر آفة مستعصية. إن الوجه عندئذ سيلبس لبوس التكرار واليأس والقنوط، وصولاً إلى الإندثار، إذا ما كانت ملامحه محكومة ببُعد واحد، إذا ما كانت هذه الملامح العوراء رهن نظرة واحدة للعالم. فحتى الملامح الغفلة عن كل تعيين أخفّ وطأة من تلك التي لا تشي إلا باستساغة الكارثة.
قد يُنصف الحظ المرء، ويعيد رسم ملامحه البليدة. قد يخصّه القدر بنعمة أن يفصح وجهه عن ملامح الإنقياد إلى السكون والطمأنينة، أما أن يزنّر هذا المرء عالمه بالسلاسل الحديدية التي يبثها وجهه في كل آن، فإن الوجه بهذه الحالة هو معادل للعالم كحدث هلعي على الدوم.
لا أحد يدري أين يكمن الحد الأقصى للملامح في الحياة العادية للإنسان، لكن هذا الحدّ بغاية الوضوح والجلاء لدى من لا يتلقّف العالم إلا كحدث جوهره الفاجعة... يتكلم الفرنسي موريس بلانشو عن نهم الفاجعة، ذلك النهم الذي يغيّر كل شيء في الحياة بدءاً من نظرات العيون ورجف الشفاه، وصولاً إلى جريان الدم في العروق.
يقول الهولندي هاري موليش في رائعته الروائية "الإعتداء": "حتى لو استقرتْ الجنة على الأرض فهي لن تكون جنة بعد كل ما حدث".
على الرغم من تطفّل ملامح الهزيمة والإنكار والتحيّز إلى لبنان التعطيل والحروب، والتي شاعت للحظات في أروقة القصر الجمهوري يوم تسمية نواف سلام رئيساً للحكومة، يبقى الأمل معقوداً على جمع أوصال كل الملامح الأخرى التي تمهّد لوطن مستقر جميل يسوده الأمان وراحة البال. فبعد كل ما أحدثته تلك الملامح التي نسفتْ الحدود بين الوطن والكارثة، لا أظنّ أن هناك مواطناً لبنانياً واحداً يأملفي بلبنان الجنة. فجلّ ما نرنو إليه هو أن يكون وجه لبنان جميلاً، وأن تشي ملامح هذا الوجه بالعيش بمنأى عن تلك الملامح التي اعتادت اقتراض الموت يوماً بيوم... كل الأمل أن تكون ملامح لبنان المستقبل بمنأى من تلك الملامح المتطفلة على الفرح اللائق بلبنان الذي نحب.