في بداية الثورة السورية (عام 2011) أراد نظام الأسد وضع مكونات الشعب السوري في مواجهة بعضها البعض، بتجييش المشاعر وإثارة الكراهية، عبر نشر هتافات طائفية من مثل "العلوي إلى التابوت والمسيحي إلى بيروت"، بهدف صبغ الثورة بالطائفية (سنّة ضد أقليات) كما كان يسميها، بدل أن تكون مواجهة مع نظامه الاستبدادي القمعي. لكن وعي السوريين أسقط من يده هذه الذريعة في زمن الحرب، وأبقت المعارضة على هدفها المباشر، وهو إسقاط النظام من رأسه حتى أزلامه. لكن أدوات النظام التي لا تزال كامنة بين جموع الأبرياء والمشمولين بالعفو من إدارة العمليات، ما زالت تعمل على استنهاض وإنعاش مشاعر الطائفية، لأنها اليوم أداتهم الوحيدة لتخريب ما بقي من السوريين، بعد أن دمر وأحرق بشار الأسد ما استطاع من البلد قبل هروبه المذل من سوريا.لهذا، لا غرابة أن تمارس بعض الجهات أعمالاً استفزازية في القصاع (منطقة مسيحية) على سبيل المثال، وفي مناطق العلويين في محيط دمشق والساحل السوري، بل وأن يتحدوا النخبة الشبابية من السوريين بانتقال أعمالهم التحريضية إلى الجامعات، لعلمهم أن هذه المرحلة الحساسة من تاريخ سوريا، حيث تتشابك التوترات الطائفية مع التحولات السياسية والأمنية، وتكون بنية الحكومات الحديثة بعد الثورات "هشة"، ومزدحمة بالأولويات الصعبة، ما قد يخدم أغراضهم في نشر الفوضى، بهدف تفشيل أي جهد يرمي لخلق حالة التوازن المجتمعي، واستعادة الحياة الطبيعية للسورين.في هذا السياق، وبالنظر لعدم التعريف بمشروع حكومة أحمد الشرع، عبر خطاب واضح وصريح وموجه للسوريين مباشرة، من غير اقتطاع أو تحوير أو تسليط الضوء على أنصاف الجمل، كما يحدث في المقابلات لوسائل الإعلام الخارجية، ومنها طريقة تعاطيهم الأمنية مع مجرمي النظام السابق، يشعر كثير من أبناء الطائفة العلوية أن الحملة الأمنية الحالية تستهدفهم كطائفة، كما يثير مخاوف أوسع لدى السوريين، من ديانات ومذاهب وأيديولوجيات متنوعة، حول الهوية الوطنية والمواطنة المتساوية، التي لم تنل حظها من المأسسة حتى اليوم، ما يساعد في تأجيج فكرة الاستهداف الممنهج من قبل بعض أطراف محلية وخارجية متضررة من سقوط النظام. أي أن ما يجري من انتهاكات لا يدخل ضمن سياسات الحكومة، ولكنه يدخل ضمن سياق محاربة نشوء الدولة سواء كان مرتكبيها من داخل أيديولوجية الحكم الحالي أو المتحالفين معه، أو من المتنافسين على السلطة من بقية الاتجاهات والفصائل الأيديولوجية.
لقد برزت شخصية الشرع كرمز لإنهاء حقبة الأسد، متحدثًا بلغة وطنية جامعة وواعدًا بسوريا قوية ومواطنة كريمة لجميع أبنائها. ومع ذلك، فإن ما يجري على الأرض من تصرفات بعض الأطراف التي تحاول الاستفادة من هذا التحول يُلقي بظلال من الشك حول مدى قدرة هذا المشروع على الصمود في وجه التحديات.لذا، حالياً، فإن أي حديث عن استهداف للأقليات من حكومة تسيير الأعمال وأذرعها الأمنية هو أمر غير دقيق، بل هو أحد أدوات زرع الفتنة في البلاد. ومع ذلك، بكل صراحة، فإن التوترات الحالية والخطابات المتباينة حول شكل الحكم المقبل تزيد من حالة القلق العام، وما يزيد الأمر تعقيدًا هو سلوك بعض الأطراف التي تحاول استغلال هذه التوترات لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة، مستغلة أيضاً في جانب آخر التصريحات المتناقضة داخل الحكومة مع خطاب القائد العام للإدارة السورية الجديدة.
من جانب آخر، فإن تلك المخاوف تُغذَّى أيضاً من خطاب دولي وإقليمي يركز على حماية الأقليات، وهو خطاب قد يحمل في طياته تهديدًا لتماسك النسيج الاجتماعي السوري، فلطالما واجهت سوريا محاولات لنبش انقسامات طائفية واجتماعية، تفاقمت خلال العقد الماضي، بسبب الحرب والصراعات الداخلية. فقد كان الأسد (الأب والابن) يسعى دائمًا إلى زرع فكرة أنه حامي الأقليات، مستخدمًا ذلك كأداة لتأمين دعم دولي واستمالة المجتمع الدولي، من خلال إثارة التخوف من حكم الأغلبية السنية. ومع ذلك، لم يكن هناك استهداف فعلي للأقليات، بل كان هذا الخطاب أداة سياسية لتوجيه وابتزاز الرأي العام المحلي والدولي. هذا النهج أسهم في زيادة تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد.فعندما تُصوَّر الأقليات على أنها بحاجة إلى حماية خاصة، فإن ذلك يعزز منطق الانقسام بين "أقليات" و"أكثريات"، مما يضعف الإحساس بالوحدة الوطنية، بالإضافة إلى ذلك، فإن الشعور بالاستهداف يجعل الأقليات أكثر عرضة للقلق من المستقبل السياسي، خصوصاً إذا كان يُنظر إلى الأغلبية السنية كقوة تسعى لفرض هيمنتها الثقافية أو الدينية "المتشددة"، وبالتالي، تعرقل هذه الانقسامات الجهود الرامية إلى بناء دولة حديثة تقوم على أسس المواطنة والمساواة أمام القانون.
على ذلك، فإن التأكيد على أن المواطنة هي الرابط الأساسي بين الجميع، حاجة أساسية من دون الخوف من الخوض فعلياً في حوار صريح يعالج المخاوف الطائفية المتبادلة، ويعزز الثقة بين مكونات المجتمع، إذ أن الطوائف كمعطى ديني تاريخي، هي غير الطائفية التي لها معنى وتوظيف سياسيين وسلطويين.بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تتضمن أي عملية سياسية مقبلة ضمانات قوية لحماية الحريات الدينية والثقافية، مع رفض أي محاولة لفرض الهيمنة من أي طرف، فمستقبل سوريا يعتمد على قدرتها على تجاوز الانقسامات الطائفية وبناء دولة تقوم على أسس المواطنة والحرية والكرامة والمساواة، وهذا أساسه دستور جامع ومانع للانقسام ومجلس شعب منتخب وفق قوانين "تمنع المتاجرة تحت قبته وعليها" كما كان سائداً خلال العقود الماضية.
لا أحد من السوريين، وأخص هنا النخب السياسية والثقافية، مستثنى من دور فاعل للعمل على تهدئة المخاوف وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة، للوصول إلى حبل النجاة جميعاً من دوامة الانقسام والموت على الهوية.