منذ عدة عقود، نظمّت مع فنانين فرنسيين عرضًا مسرحيًا في كاتدرائية سمعان العامودي شمال مدينة حلب لرائعة الكاتب الفرنسي "جان راسين" المعنونة "بيرينيس". أثناء التحضيرات للعرض في هذا الموقع الأثري الجميل، زارتني جحافل رجال الأمن الموكلة بمراقبة النشاطات الثقافية، محلية كانت أم أجنبية. كان همّ الجميع ألا يكون في النص أية إشارة ذات صبغة سياسية أو جنسية. ودفعني هذا لتقمّص دور المعلّم عارضًا لتاريخ كتابة العمل (1670) ولمضمونه الدرامي الذي يعرض لقصة حب "عذري" بين الامبراطور "تيتوس" والملكة "بيرينيس" ببساطة شعرية وعمق نفسي. وبنهاية اللقاء/التحقيق، قدمت لهم بطاقة دعوة، فرفضها الجميع، لأنني وحسب تعليقهم قلت إن لا جنس فيها، فالأمر لا يستحق إذًا عناء الحضور. وفي مناسبة أخرى، قمت بتنظيم عرض فيلم "امرأة فرنسية" لمرة واحدة في حلب. وكان الشريط السينمائي لم يُعرض على الرقابة لملكيته للمركز الثقافي الفرنسي. حضر العنصر الأمني وطلب الجلوس بقرب آلة العرض ليتدخل في حالة وقوع أي مشهدٍ غير مقبول. وعندما همّ البطل بتقبيل البطلة، ظهرت على الشاشة راحة يدٍ وسمع الحضور صراخًا وعويلاً من غرفة العرض. فالرقيب الرعديد، لم يجد طريقة لحماية الأخلاق الحميدة إلا بوضع راحته أمام عدسة العرض ليصاب بحروق من الدرجة الثالثة.تعيش الدول التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية في ظل رقابة شديدة على كل أنواع الإنتاج الفكري والإعلامي والثقافي. ويصل خوف بعض موظفي الرقابة الذين يعيشون في ظل أعتى الأنظمة الاستبدادية إلى درجة أنهم يمارسون رقابة على أقوال ونصوص لم ترد فيها أيًّا من المحرمات المنصوص عليها أمنيًا وسلطويًا، ولكنهم يتفادون مسبقًا عواقب وقوعهم ضحايا لاجتهادات مفاجئة يمكن لها أن تودي برؤوسهم وظيفيًا أو جسديًا. ومن سخرية القدر، أن كثيرًا من الشاغلين في الرقابة على الإنتاج الفكري والثقافي والفني هم من أولاد أبا جهل ومن شابههم. وللتغطية على مقدار جهلهم البنيوي، والذي يودي بهم غالبًا إلى عدم فهم المقصود مما يعبر تحت أعينهم وألسنتهم وأقدامهم، فهم يمزقون بعملية استباقية الصفحات أو يمنعون طباعة النصوص أو إنتاج الأعمال التي لا ترقى في انحدار مستوى خطابها إلى حضيض ثقافتهم وإلى ضحالة معرفتهم. منفذين "جريمتهم" تحت شعار "لا من شاف ولا من دري".الرقابة تكون على أنواع، وتتمايز حسب الثقافات وطبيعة الأنظمة. وغالبًا ما تتنكّر بلبوس تستند إلى معايير أخلاقية، أو اجتماعية، أو دينية، أو سياسية، أو قانونية. فتكون حينًا أخلاقية عندما تدّعي حماية المجتمع مما تعتبره منافيًا للقيم وللأخلاق العامة. وفي هذا الإطار، تُبيح لنفسها هامشًا عريضًا للاجتهاد في التصنيف وفي الاعتبار مهما ابتعدت في اجتهادها عن المبادئ الأخلاقية فعلاً وعن القيم. وتكون الرقابة دينية، بمعزلٍ عن الرقابة الأخلاقية، لتمايز تفسير المفهومين لدى أصحاب الحل والعقد. فاعتبار الإساءة إلى الدين يعطي المجال واسعًا للاستفاضة وللتشميل حتى من دون أي رادعٍ ومن دون أي منطق. وقد تكون الرقابة سياسية، حيث تمنع الأعمال والنصوص التي يعتبر الرقيب بأنها تُسيء بصورة أو بأخرى لمن اختاره وعيّنه في موقعه كنظام حكم، بعيدًا عن مفهوم "الصالح العام" الغريب على كل مستبد ومُستبدٍّ به راضٍ عن وظيفته كمستبدٍّ صغير. ومن جهة أخرى، فبعض المجتمعات تمارس رقابة مجتمعية مرتبطة بما يتفق عليه العقل الجمعي على أنها تقاليد وأعراف محلية. وليس بالضرورة أن تجد لها تبريرًا مقنعًا. وهناك الرقابة العسكرية التي تحمي معلومات يتم تقدير خطورة نشرها من جانب السلطة العسكرية. وهي تقتضي تجنّب الإشارة إلى مواقع حساسة أو التهكّم على مؤسسات الجيش والأمن. عدا ما يتعلق بتموضع القوات، التي تشترك في منع الإفصاح عنها كل أنواع الأنظمة، تبقى مسألة التهكم مباحة في الأنظمة الديمقراطية. وأخيرًا، ومن أسوأ أنواع الرقابة وأشدّها إيلامًا لمن امتطى صهوة القلم، تبقى الرقابة الذاتية التي يمارسها بحق إنتاجه وذلك تحسّبًا لردود فعل السلطة أو المجتمع.استنادًا إلى ما سبق، هل يمكن أن نخلص إلى أن مهنة الرقيب محصورٌ أداؤها في إطار الأنظمة المستبدة؟ أظن بأن الإجابة بنعم تصحّ فيما إذا كان المقصود هو ذاك الموظف الخاضع لإدارة المستبد والمنفّذ لقوانينه الزجرية. أما في الدول "الديمقراطية" فلا يوجد الرقيب كصفة وظيفية. بالمقابل، تُمارس الرقابة بطرق أكثر خبثًا، وأعظم تأثيرًا، وأقل وقاحةً. ولهذه الرقابة أساليب عدّة ليست هيمنة رأس المال وتوجيهات أصحابه أولها، وليست خضوع مختلف القطاعات التي تنتج فكرًا وفنًا وثقافة، لدفتر شروط، ليس مالياً فحسب، بل وسياسي محلي أو إقليمي أو دولي، آخرها. كما لم يساعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في تحرير إنتاج الفن والفكر والمعرفة من سلطة الرقابة الذكية في الدول الديمقراطية، بل على العكس، فقد تحوّلت الرقابة من سعيٍ إلى منع انتشارٍ لملف ما، إلى نشرٍ عشوائيٍ ومكثّف لمنتجٍ يركب موجة حرية التعبير لنشر الأكاذيب أو تشويه الفكر سعيًا لمحاربة المنطق والحقيقة. إنها رقابة الأجيال القادمة.