كان النصف الأوّل من الشهر الحالي حافلًا بتطوّرات سريعة، على مستوى المشهد السياسي اللبناني. خلال 15 يومًا، تم انتخاب الرئيس جوزاف عون، ليُنهي بذلك المجلس النيابي فراغًا رئاسيًا فرض نفسه منذ أواخر تشرين الأوّل 2022. ثم تبع ذلك تكليف الرئيس نوّاف سلام بتشكيل الحكومة، وما تلى ذلك من حلحلة متدرّجة لامتعاض "الثنائي الشيعي" من هذا التكليف. المناخات السياسيّة الإيجابيّة، أوحت باندفاع البلاد باتجاه مرحلة مختلفة جذريًا، لجهة كيفيّة التعامل مع الملفّات الاقتصاديّة والماليّة المعلّقة. ولا يوجد ما يعبّر عن تفاؤل الأسواق أكثر من القفزات السريعة والمتتالية في أسعار سندات الدين السيادي، منذ بداية هذا العام.
لم تكن سوق القطع بعيدة عن كل هذه الأجواء المتفائلة. فور انتخاب الرئيس جوزاف عون، شهدت سوق القطع تزاحمًا على شراء الليرة اللبنانيّة، ربما أملًا في الاستفادة من أي تحسّن في سعر صرف العملة المحليّة. ما فات المتزاحمين على شراء الليرة، هو أنّ مصرف لبنان يُعد حاليًا المزوّد –أو العارض- الرئيسي لليرة اللبنانيّة، بعدما تم تجفيف السوق من الليرات تدريجيًا على مدى الأشهر الماضية. لذلك، لم يؤدّي التهافت على طلب وشراء الليرة إلى ارتفاع سعرها في سوق القطع. بل سمح ذلك لمصرف لبنان ببيع المزيد من الليرات، وشراء المزيد من الدولارات من السوق الموازية. أي طلب على الليرات في ظل التوازنات النقديّة الراهنة، سيعني زيادة احتياطات مصرف لبنان.ميزانية مصرف لبنانكل ما سبق ذكره، وجد طريقه للتأثير في ميزانيّة المصرف المركزي، وفقًا للأرقام التي جرى نشرها خلال هذا الأسبوع. فخلال النصف الأوّل من الشهر الحالي، ارتفع حجم احتياطات مصرف لبنان من 10.13 مليار دولار أميركي في بداية الشهر، إلى قرابة الـ 10.34 مليار دولار أميركي في منتصفه، وهو ما عكس زيادة كبيرة قدرها 210.46 مليون دولار أميركي خلال مدّة لم تتجاوز الـ 15 يومًا. وبهذا الشكل، بات حجم الاحتياطات اليوم أعلى بمقدار 1.77 مليار دولار أميركي، مقارنة بحجمها في أواخر شهر تمّوز 2023، أي منذ نهاية ولاية الحاكم السابق رياض سلامة.
على هذا النحو، تدخّل مصرف لبنان مستفيدًا من الإقبال على شراء الليرة. وبدل أن يؤدّي الطلب على الليرة إلى ارتفاع سعرها في السوق، وفق قواعد العرض والطلب المعروفة، لعب المركزي دوره في ضخ الليرات المطلوبة مهما كان حجم الطلب، وشراء الدولارات المعروضة مهما كان العرض، على أساس سعر الصرف الثابت نفسه. وبهذا المعنى، يمكن القول إن المصرف المركزي هو الجهة التي تكفل ثبات سعر الصرف بمعزل عن موازين العرض والطلب. فهو يتدخّل شاريًا للدولارات وعارضًا لليرات حين يشتد الطلب على الليرة، أو يقوم بالعكس حين تنقلب المعادلة. وهذه السياسة هي ما يفسّر الاستقرار النقدي القائم منذ العام الماضي.متى يتحسّن سعر الصرف؟هنا يمكن طرح السؤال الذي يدور في بال الجميع: متى يمكن توقّع تحسّنات في سعر صرف الليرة؟ ببساطة، حين يقرّر مصرف لبنان عدم التدخّل بعرض الليرات وشراء الدولارات، حين يرتفع الطلب على الليرة اللبنانيّة. بهذا الشكل، يمكن القول أن رفع سعر صرف الليرة اللبناني له كلفة هنا، بالنسبة لمصرف لبنان. والكلفة هي التضحية بعدم شراء فائض الدولارات من السوق، أو عدم عرض الليرات لتلبية الطلب المرتفع على الليرة.
هل يمكن للمصرف المركزي أن يقوم بتضحية من هذا النوع، لرفع سعر صرف الليرة؟ لا يوجد فعليًا ما يدفعه لفعل ذلك. من الناحية العمليّة، لا يملك المصرف المركزي أي مصلحة في تحويل الليرة إلى مادّة للمضاربة في سوق القطع، بغياب منصّة التداول الشفّافة المُنتظر إطلاقها منذ نهاية ولاية رياض سلامة. الاستقرار في سوق القطع، بغياب المنصّة، هو أفضل ما يمكن أن يأمله مصرف لبنان في مثل هذه الظروف. وعودة المضاربات القاسية والسريعة على الليرة، قد تعني استفادة فئات من ارتفاع سعر صرفها، لكنّه قد يعني مستقبلًا العكس: تضرّر فئات أخرى من انخفاض سعر الصرف. وهذا بالتحديد ما أشار له الحاكم بالإنابة وسيم منصوري من القصر الجمهوري.
يمكن هنا توقّع سياسة نقديّة مختلفة، بعد إطلاق منصة التداول في المستقبل. إذ يمكن لمصرف لبنان أن يقرّر السماح بتذبذب سعر صرف الليرة اللبنانيّة ضمن هامش معيّن، وفق قواعد العرض والطلب والسوق الحرّة، في مقابل تدخّل بائعًا أو شاريًا للدولار عند اللزوم، أي عند تخطّي هذا الهامش. لكنّ الدخول في سياسة نقديّة من هذا النوع، يجب أن تندرج أولًا ضمن خطّة متّفق عليها مع الحكومة اللبنانية. إذ لا يمكن فصل السياسات الهادفة إلى التحكم بسعر الصرف، عن السياسات الماليّة المتصلة بآليّات جباية الضرائب والرسوم، أو آليّات تحديد سقوف الإنفاق بالعملة المحليّة.سائر بنود الميزانيّةسائر بنود ميزانيّة المصرف المركزي، حملت تطوّرات لا تقل أهميّة. احتياطات الذهب مثلًا، شهدت ارتفاعًا في قيمتها من 24.1 مليار دولار في بداية الشهر الحالي، إلى نحو 24.78 مليار دولار في منتصفه، أي بما يقارب الـ 683.19 مليون دولار خلال 15 يومًا. وكما هو معروف، عادةً ما تنتج هذه الارتفاعات عن تحسّن أسعار الذهب في السوق العالميّة، وهو ما يفرض تعديل قيمة الاحتياطات المحدّدة في ميزانيّة مصرف لبنان.
أمّا قيمة الليرات المتداولة خارج مصرف لبنان، فارتفعت خلال الفترة نفسها من 65.56 ترليون ليرة لبنانيّة، إلى ما يقارب الـ 84.03 ترليون ليرة، وهو ما عكس ارتفاعًا بقيمة توازي الـ 206 مليون دولار أميركي، بحسب سعر الصرف الرائج في السوق. ومن الواضح هنا أن هذا الارتفاع نتج تحديدًا عن تدخّل مصرف لبنان، عبر بيع الليرات وشراء الدولارات، كما أشرنا سابقًا. وما يؤكّد هذه الفرضيّة، هو التوازي الواضح بين حجم الزيادة في احتياطات العملة الصعبة لدى مصرف لبنان، وحجم الزيادة في الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة.
في جميع الحالات، من الأكيد أنّ تحوّلات ميزانيّة المصرف المركزي تأثّرت بشكل سريع بالأجواء السياسيّة السائدة في البلاد. غير أن معالجة الاختلالات البنيويّة في هذه الميزانيّة، سينتظر المضي قدمًا بالمعالجات المطلوبة، على مستوى خطّة التعافي المالي الشاملة. وإعادة تقويم وتعديل هذه الخطّة، التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي عام 2022، سينتظر بدوره تشكيل الحكومة الجديدة ونيلها الصلاحيّات التنفيذيّة الكاملة، ومن ثم إقرار القوانين المطلوبة في المجلس النيابي.