مرّ الحديث الحصري المباشر والأول من نوعه، لحاكمة المصرف المركزي السوري، ميساء صابرين، قبل أيام، من دون أن يحظى بما يستحق من الجدل والنقاش من جانب المتخصصين السوريين. إذ تركت تصريحات صابرين لوكالة "رويترز"، جملة أسئلة -بعضها ملح للغاية- بلا أجوبة، بصورة توحي وكأن شيئاً نوعياً لم يتغير في عقلية عمل المركزي، بعد سقوط المتحكم السابق به، نظام الأسد المخلوع.وقبل الولوج إلى الأسئلة المعلّقة، لا بد من الإشارة إلى أن جملة قرارات إيجابية قد صدرت عن المركزي، بالفعل، خلال الشهر الذي تلا سقوط النظام. قد يكون أبرزها، ذاك الصادر قبل أيام، حينما ألغى المركزي سقف الحوالات المالية الداخلية، والذي كان يقيّد حركة الأموال بين المحافظات السورية، بصورة أضرّت بشدة، بالاقتصاد الوطني. لكن في المقابل، فإن الأسئلة المعلّقة في مقابلة حاكمة المركزي، لا تتعلّق بقرارات إجرائية، بقدر ما تتعلّق بعقلية إدارة أعلى مؤسسة نقدية في البلاد، والأكثر تأثيراً في معظم جوانب الاقتصاد الوطني.
في هذا السياق، جاءت اللفتة إلى إعداد مسودة لتعزيز استقلالية المركزي، تلك التي أشارت إليها الحاكمة، متضاربة مع التحفظات التي أبدتها خلال حديثها. أبرز تلك التحفظات، رفضُها الإجابة عن حجم احتياطيات سوريا الحالية من النقد الأجنبي والذهب. ذاك التحفظ يدفع بنا إلى تأويل وحيد، بصورة مبدئية، وهو أن حاكمة المركزي ما تزال تعمل وفق ذات العقلية التي حكمت عمل المركزي السوري خلال الـ14 سنة الفائتة، على الأقل. حينما كان الغموض هو استراتيجية المركزي المفضّلة لإدارة السياسة النقدية في البلاد. وكان يمكن فهم ذلك بأنه نتيجة التدخّل الصارخ من جانب سلطة النظام في عمل المركزي. لكن، أن يستمر هذا الغموض سارياً حتى بعد سقوط النظام، يعني أن عنصر الشفافية في عمل المركزي السوري، سيبقى مفقوداً في الفترة المقبلة. وهو عنصر يُجمع المتخصصون الدوليون في عمل البنوك المركزية، أنه السمة الملازمة للاستقلالية، بحيث يتيحان معاً الأساس لبناء سياسة نقدية رشيدة.أما السؤال الثاني الذي بقي معلّقاً، والذي لم تتطرق الحاكمة إليه مطلقاً، رغم ارتباطه بالحياة اليومية للسوريين، هو كيفية إدارة سعر الصرف والتأثير به، والخطط المتعلقة بذلك. فالمركزي ومنذ نحو أسبوعين، استعاد سمعته سيئة الصيت لدى السوريين، بانفصاله عن الواقع، وتحكّم السوق السوداء بسعر الصرف، بالمطلق. فهو يحافظ على سعر صرف 13000 ليرة لكل دولار، رغم أن السعر الواقعي على الأرض بعيد عنه. كما أنه يمتنع برفقة البنوك العاملة في البلاد، عن تصريف الدولار بالسعر الرسمي الذي يُصدره. وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى جدّية المركزي بالعمل بشفافية تليق بالبنوك المركزية الرشيدة، بدل الانفصال المطلق عن واقع حياة السوريين، كما كان قائماً في عهد النظام السابق.
وكانت أبرز الوقفات المثيرة للجدل، تلك الإشارة التي أبدتها حاكمة المركزي بتوفر السيولة الكافية لدفع رواتب الموظفين الحكوميين حتى بعد زيادتها بنسبة 400%، في مطلع الشهر المقبل. تلك الوقفة جاءت موجزة، ولم تتطرق إلى معالجة المخاوف العديدة التي أبداها المتخصصون حيال هذه الزيادة الكبيرة في الأجور، التي أعلنتها سلطات الإدارة الجديدة بدمشق، مطلع الشهر الجاري.وهنا نقرّ، أن زيادة الأجور بنسبة 400%، يُعتبر بالفعل، حلاً إسعافياً للتخفيف من غلواء ضعف الدخل غير المحتمل لدى غالبية السوريين، والمبدأ ذاته، لا يقبل النقاش. فالحد الأدنى الحالي للأجور (نحو 25 دولاراً)، يُعتبر امتهاناً لكرامة الإنسان السوري، من دون شك. ورفعه ليصبح بنحو 100 دولار، لن يفي بالحد الأدنى من متطلبات المعيشة، لكنه يقلّص من الفجوة الصارخة بين الدخل وبين تكاليف المعيشة. إلا أن ما سبق، لا يلغي المخاوف المحقة لفئة كبيرة من المتخصصين. أقل تلك المخاوف وطأة، هو مدى قدرة الصرّافات المعطّلة في معظمها، والتي تعاني دوماً من ازدحامات خانقة، على توفير السيولة الجديدة المضافة لمستحقيها. إلى جانب الجدل حول انعكاس هذه الزيادة في أجور موظفي القطاع العام، على نظرائهم في القطاع الخاص. فهل سيرفع أرباب الأعمال الخاصة الأجور بنسبة 400% أيضاً؟ وقد يكون بعض المخاوف السابقة ليس من صميم الاختصاص المباشر للمركزي، لكن أبرز المخاوف، وهي احتمال حدوث تضخم مفرط، هو من صميم اختصاص المركزي. فهل هناك خطة أو تصوّر واضح لدى إدارة المركزي حول مستوى التضخم المرتقب بعد ضخ السيولة النقدية الجديدة المتأتية مع زيادة الرواتب مطلع الشهر المقبل؟فمن المعلوم أن زيادة السيولة النقدية المتاحة في الأسواق لا تؤدي إلى تضخم إن كانت متناسبة مع مقدار المعروض من السلع. ففي هذه الحالة، تؤدي السيولة النقدية الجديدة الهدف المرجو منها، وهو رفع القدرة الشرائية للمواطن. لكن، هذا التقدير يتطلب توافر بيانات دقيقة لدى المركزي، تجعله على يقين نسبي بأن السيولة الجديدة تتناسب مع المعروض من السلع. وأن الطلب الجديد المتولد عنها، لن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، كما هو متوقع، على نطاق واسع. لكن حاكمة المركزي لم تتطرق مطلقاً إلى هذه الحيثية. ولا نعرف إن كانت إدارة المركزي تملك بيانات واضحة حول حجم السيولة النقدية المتاحة في الأسواق، ومدى تناسبها مع حجم المعروض من السلع. وهو ما يجعل المخاوف من أن تفقد الزيادة في الرواتب قيمتها، مع ارتفاع صارخ للأسعار، مبررة بقوة.
ومع جملة الأسئلة المعلّقة أعلاه، يبدو الحديث عن استقلالية مرتقبة لعمل المركزي، منفصلاً تماماً عن سياق تطور الأمور. وتصبح المخاوف أكبر، أن يكون المركزي في العهد الجديد، كما كان في العهد البائد، خاضعاً لتلاعب الساسة بالسياسة النقدية، بما يخدم غايات سياسية قصيرة الأجل، من قبيل زيادة الشعبية في الشارع، في الظرف الانتقالي الراهن. فيما يجلب ذلك على المدى البعيد معاناة اقتصادية طويلة الأجل، أبرز معالمها، خروج التضخم عن السيطرة بصورة تجعل عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي، حالة مستدامة في البلاد، امتداداً لما كان قائماً في عهد النظام البائد.