اللبناني، الذي أثقلته الخيبات المتتالية في مختلف مفاصل حياته السياسية، يستقبل انتخاب الرئيس جوزاف عون وتكليف نواف سلام بحذرٍ مشوبٍ بالخوف. ليس الخوف من الأشخاص بحد ذاتهم، بل من العوامل المتعددة التي تعمّق هذا الشعور، وأبرزها التدخلات الخارجية التي برزت بوضوح في آلية انتخاب الرئيسين، ما يجعل تأثيرها أمراً لا يمكن تجاوزه. كما أن عامل التوزيع الطائفي اليوم يعزز هذا الخوف، خصوصا مع الثنائي الذي قاطع الاستشارات النيابية غير الملزمة وهو ما اعتبر إشارة تنذر إلى العرقلة منه ومن غيره من القوى.الحكومة الـ78منذ الاستقلال وحتى اليوم، تم تشكيل 77 حكومة، ونحن الآن أمام الحكومة الـ78، والتي ستكون الحكومة الـ21 بعد اتفاق الطائف عام 1989. رغم مرور العقود، لا تزال التحديات والعقبات نفسها تلاحق تشكيل الحكومات في لبنان، وأخرى تستغرق وقتا طويلا، منها حكومة تمام سلام التي استغرق 11 شهرا لتشكيلها.
بحسب الباحث في "الدولية للمعلومات"، محمد شمس الدين، "المشكلة الأساسية التي تواجه تشكيل الحكومات هي توزيع الحقائب على القوى السياسية والطائفية. تتكرر الأسئلة: لأي جهة ستكون وزارة الخارجية؟ المالية؟ التربية؟ وما إلى ذلك. هذه الإشكالية تبدأ بتوزيع الوزارات على الطوائف، ثم في مرحلة ثانية على الأحزاب. يضاف إلى ذلك مسألة حجم الحكومة: هل ستكون مؤلفة من 30 وزيراً؟ 24؟ أم 14 وزيراً فقط؟ وهل ستكون حكومة تكنوقراط بالكامل أم مزيجاً من التكنوقراط والسياسة؟ وهل ستضم نواباً أم لا؟".
من جهة أخرى، تطالب الطائفة الشيعية دوما بوزارة المالية في كل الحكومات، ويتم الادعاء بأن اتفاق الطائف نص على أن تكون وزارة المالية من حصة الطائفة الشيعية، فقد نفى شمس الدين ذلك، مشيراً إلى أن "هذا غير صحيح. من بين 20 حكومة تشكلت بعد اتفاق الطائف، تولى وزارة المالية وزراء من مختلف الطوائف: 8 شيعة، 8 سنة، 3 موارنة، وواحد أرثوذكسي. وبالتالي، لم تكن وزارة المالية حكراً على الطائفة الشيعية".المستقبل المجهوليعتبر الثنائي الشيعي أنه تعرض لخديعة في ملف تكليف نواف سلام، الذي تمت تسميته بدلاً من نجيب ميقاتي، وهو الخيار الذي كان يُفترض أن يتقاطع مع انتخاب جوزاف عون. منذ لحظة نجاح سلام في حصد أصوات غالبية النواب، انفجرت مقاطعة الثنائي في وجه أولى خطوات الرئيس المكلف. والعبرة في ما سيلي من خطوات: فإما يعمد الثنائي الشيعي إلى مقاطعة الحكومة المقبلة ثم تعطيل عملها، وهو سيناريو يعيد إلى الأذهان الانقسام الذي شهدته حكومة فؤاد السنيورة بين عامي 2006 و2008، أو عرقلة عملية التشكيل بحجة عدم ميثاقية أي حكومة لا يشارك فيها.
هذه التطورات تثير مخاوف حقيقية حول قدرة الرئيس جوزاف عون على الحكم في ظل هذه الأجواء، كما أنها تفتح الباب أمام تساؤلات كبيرة حول آلية تشكيل الحكومة المقبلة واستمراريتها. وما الذي يحكم عملية تشكيل الحكومات في لبنان، هل العرف أم القانون أو ما اصطلح على تسميته التوافق؟
دفعت الوقائع المتصلة بتشكيل الحكومة بالنائبة حليمة قعقور إلى "التفاؤل بحذر". تطرح في حديثها لـ"المدن" تساؤلات محورية حول "مدى تقبل الطبقة السياسية، والثنائي الشيعي تحديداً، هذا التطور، خصوصاً إذا كانوا يرون فيه انقلاباً على اتفاق ما، وعن مدى تعاون الأحزاب مع نواف سلام في تشكيل الحكومة".
وتقول: "لا نريد الإقصاء، فهذا البلد لا يمكن أن يُدار بمنطق الإقصاء. لقد كنا مستائين لأن أحزاب المنظومة أقصتنا بسبب رفضنا للخطاب الطائفي، وهو خطاب يرفضه أيضاً جزء كبير من المجتمع اللبناني"، لكنها بالمقابل ترفض العودة إلى "طريقة المحاصصة القديمة"، مشددة على تطلعها إلى "أداء منتج وشفاف يعزز المواطنة". وتختم قائلة: "لكن يا ربي خير".التدخلات الخارجيةكان الوضع الداخلي اللبناني مأزوماً إلى حدٍ كبير، وقد مضى أكثر من سنتين على الفراغ الرئاسي وشهد لبنان حرباً إسرائيلية أعادته سنوات إلى الوراء. وبفعل تدخلات دولية وإقليمية، تحرّك المشهد مؤخراً فكانت إعادة تركيب السلطة، بدءاً من انتخاب رئيس الجمهورية، مروراً بتسمية رئيس الوزراء المكلف، وصولاً إلى تشكيل الحكومة. خطوات جيدة انعشت أمل المواطنين لكن ماذا بعد؟
والتحديات الأخرى لا تقل تعقيداً. الطائفية والمصالح الشخصية، لا تزال تهيمن على المشهد، فيما يُطرح مجدداً سؤال "الثلث المعطل" الذي كان سبباً في تعطيل العديد من المبادرات سابقاً. إلى جانب ذلك، هناك التزامات إصلاحية وضعتها المؤسسات الدولية وصندوق النقد، تتطلب إرادة سياسية قوية لتنفيذها.
في هذا السياق، يشير المحامي الدكتور بول مرقص إلى أن "الدستور لا يدخل في التفاصيل في موضوع الحكومة سوى أنه يشترط أن تراعي هذه الحكومة التمثيل الطائفي، وأن توافق رئيس الجمهورية مع الحكومة على التشكيلة الوزارية والشرط الثاني أن تنال هذه الحكومة الثقة في البرلمان أي الأكثرية".
الحكومة التي لا قوانين تحددها، بل الأعراف، تواجه عقبات تقليدية ومزمنة، تعترض تشكيلها الحكومة وتتكرر دون رادع وهي المطالبات الحزبية تحت ستار الطائفية في مقاعد محفوظة في الحكومة والتهافت على الإستئثار في المقاعد الوزارية دون الإكتراث بضرورات التغيير وجلب كفاءات حكومية بعيدا عن المحاصصة، بحسب رئيس منظمة جوستيسيا.عهد جديد؟الخطابات التي سمعها اللبنانيون مؤخراً حملت شعارات التفاؤل، ووجدت استحساناً لدى الناس الذين طالما انتظروا لغة جديدة تُحاكي تطلعاتهم. لكن، وكما يُقال، العبرة بالتنفيذ. السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: هل سيُسمح فعلاً لهذا النهج الجديد أن يتحقق؟ هل سيُمنح الرئيس وفريقه فرصة لتطبيق رؤية إصلاحية بعيدة عن عراقيل السياسة التقليدية؟
يشير مرقص إلى أن"الخشية تكمن في ألا يستمر هذا الزخم، وأن تعود الأطراف الداخلية، كما هي العادة، إلى التنازع فيما بينها، مما قد يؤدي إلى تعطيل هذا المسار وتفاقم الأوضاع من جديد".
وختم حديثه لـ"المدن" قائلاً "أأمل ألا يتحقق هذا السيناريو، لكن المشهدية الحالية تشير إلى أن الوضع لا يزال هشاً، رغم الآمال الكبيرة المعقودة على العهد الجديد والحكومة المرتقبة".
إذاً، اللبنانيون اليوم يعيشون بين أمل التغيير والخشية من العودة إلى المربع الأول. نجاح العهد الجديد والحكومة المرتقبة سيُقاس بقدرتهم على تجاوز العقبات الداخلية والخارجية، ليكون التنفيذ هو المؤشر الوحيد على صدق الخطابات والنوايا.