قبل ثلاثة أيّام من كتابة هذه السطور، بعث أحد الأصدقاء، وهو أستاذ متقاعد من إحدى الجامعات الألمانيّة، رسالةً من بودابست يسأل فيها عن أوضاع الكنائس في سوريا بعد انهيار نظام حزب البعث. كانت قد تناهت إليه أخبار ما يُعرف بِـ"حركة التغيير الأنطاكيّ"، التي تطالب بتنحّي البطريرك يوحنّا العاشر (يازجي)، رأس كنيسة الروم الأنطاكيّين الأرثوذكس، بسبب "عمق الارتباط" بينه و"النظام السوريّ البائد"، وما شهدته السنون الماضية من "انحياز الكنيسة للسلطة بدلاً من الدفاع عن المظلومين"، كما ورد في بيان هذه الحركة الأوّل، الذي أصدرته يوم السابع من الشهر الجاري. وتشير الحركة في بيانها الثاني، الصادر يوم الثالث عشر من الجاري، والذي وقّعه طبيب سوريّ مقيم في أستراليا يدعى وديد سلبود، إلى تمكّنها من جمع نحو ألف توقيع على بيانها الأوّل. كذلك يشير الدكتور سلبود في نصّه إلى أنّ الحركة "تلقى دعماً من أفراد من الإكليروس الأنطاكيّ المؤمنين بضرورة الإصلاح والتجديد". وهو يدعو إلى "إصلاح آليّة انتخاب البطريرك في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة"، من دون أن يتطرّق إلى انتخاب المطارنة، ويدعو أعضاء المجمع المقدّس "إلى تشكيل لجنة مستقلّة للحوار" مع ممثّلي الحركة.على الضفّة الأخرى من نهر التحوّلات الجارفة التي تشهدها الكنائس في سوريا، استضاف الإعلاميّ طوني خليفة في برنامجه "توتّر عالي" على قناة "المشهد"، المطران يوحنّا جهاد بطّاح، رئيس أساقفة السريان الكاثوليك في دمشق. في هذه المقابلة، أيّد المطران بطّاح التغيير الذي جرى في سوريا، معتبراً أنّ الهواجس المتّصلة بالمستقبل لا تقتصر على المسيحيّين، بل تشمل السوريّين جميعهم، بمن فيهم أهل السنّة. واعتبر المطران أنّ القيادة الكنسيّة تعرف الشعب جيّداً، لكنّها لم تكن تعلم بما كان يحدث في السجون السوريّة من قمع وتعذيب. أمّا ردّاً عن سؤال عن موقفه من الرئيس السوريّ السابق بشّار الأسد، فرأى بطّاح أنّه كان ضحيّة المؤامرات التي حيكت ضدّ سوريا، وأنّ الفاعلين الخارجيّين هم الذين حوّلوه إلى مجرم. وأضاف أنّه لا يطالب بمحاكمة الأسد، لأنّ هذا يستتبع محاكمة الآخرين جميعهم.
لا يخطئ من يعتبر أنّ كلام المطران بطّاح يشكّل نموذجاً من رماديّة موقف معظم القيادات الكنسيّة في سوريا بعد تهاوي النظام القمعيّ. وتكمن هذه الرماديّة، أوّلاً، في غضّ الطرف عن أنّ هذه القيادات ذاتها، في غالبيّتها، كانت تدور من حيث خطابها وسلوكها في فلك النظام، ما يحيل على عدم قدرتها اليوم على الانخراط في عمليّة نقد ذاتيّ. وهي تقوم، ثانياً، على تعميم المسؤوليّة عن الشرّ الذي حصل في سوريا، أو الاستنجاد بنظريّة المؤامرة الكونيّة، بغية تجهيل مرتكبي الجرائم. وهي تلوذ، ثالثاً، بادّعاء عدم الإلمام بالجرائم الفرديّة والجماعيّة المقترَفة، وذلك بالرغم من أنّ منظّمات حقوق الإنسان عملت إبّان العقد الأخير على توثيقها على نحو منهجيّ، ما يجعل هذا الادّعاء أشبه بالعذر الأقبح من الذنب.ينتج من هذا أنّ "حركة التغيير الأنطاكيّ"، على الرغم من أنّ المرء ربّما لا يوافق على كلّ ما أتى في بيانَيها، لم تنطلق في موقفها من اللاشيء. فالقادة الكنسيّون في سوريا، والقادة الدينيّون عموماً، انغمسوا، في معظمهم، في وحل التحالف مع النظام البائد، أو سعوا على الأقلّ إلى مسايرته وممالقته، ساكتين عن القمع الكثير الذي تعرّض له الشعب السوريّ. قد يقول قائل إنّ هذا حصل إمّا بفعل الخوف، وإمّا بفعل خيارات سياسيّة معوجّة وغير منسجمة مع جوهر الدين، الذي يسقط ما لم يكن في خدمة إنسانيّة الإنسان. لكن يبدو أنّ هناك عاملاً إضافيّاً لم يحسب له كُثُر حساباً: منذ اندلاع الثورة السوريّة العام 2011، وربّما حتّى قبل اندلاعها، يمكننا رصد تباعد مطّرد بين القيادة الدينيّة والناس، ألذين من المفترض أن تمثّلهم هذه القيادة.هذه الظاهرة تنسحب خصوصاً على الكنائس، حيث أدّت مجموعة من العوامل إلى تعميق الشرخ بين الرعاة والرعيّة. الخيارات السياسيّة هي طبعاً واحد من هذه العوامل، ولكن يجب أن نضيف إليها الإكليروسيّة المفرطة، والجنوح إلى التسلّط، وانحسار القدرة على العبّ من الثقافة الإنسانيّة غير الدينيّة، والغباء المستشري أحياناً في صفوف بعض القادة الكنسيّين. هذا كلّه حوّل المؤسّسات الكنسيّة إلى عوالم مقفلة وغير قادرة على استمداد مشروعيّتها من الناس، ما اضطرّها، عن وعي أو عن غير وعي، إلى التحالف مع الساسة، وإلى ما يستدعيه هذا التحالف من سكوت عن الظلم، بحثاً عن المشروعيّة. بكلمات أخرى، لقد تحوّلت منظومات القيادة في معظم الكنائس إلى مجرّد أجهزة لا تستقي مشروعيّتها من الجماعة الكنسيّة، بل من السلطة الاستبداديّة القامعة.من النافل القول إنّ هذه المنظومات تبحث اليوم، وبعد سقوط النظام القمعيّ، عن مشروعيّة جديدة تسعى إلى استمدادها هذه المرّة من الحكّام الجدد في الشام، ما يحتّم عليها استدرار عطفهم تارةً، عبر استدعاء نموذج "أهل الذمّة" من بطون التاريخ وتقديمه بحلّة جديدة، والتلويح طوراً بضرورة تعاون السادة الجدد معها لكونها هي، دون سواها، "تمثّل المكوّن المسيحيّ". والطامة الكبرى أنّ هؤلاء السادة، الآتين من رحم الإسلام السياسيّ الجهاديّ، ولكونهم يقاربون شؤون المجتمع من منظور الشريعة الإسلاميّة، معرّضون بدورهم لتجربة النظر إلى المسيحيّين لا من حيث كونهم مواطنين، بل بوصفهم مللاً وأجساماً جماعيّةً، القادة الدينيّون فيها هم أولياء الأمر وأهل الحلّ والربط. يضاف إلى ذلك أنّ معظم الكنائس في سوريا لا تعرف آليّات قانونيّةً فعليّةً لتنحية القادة الكنسيّين، وذلك بسبب استغنائها منذ سنوات عدّة عن المجالس الأبرشيّة، أو بفعل تعطيل دور هذه المجالس.حيال ذلك كلّه، يتبدّى التغيير عمليّةً عسيرة، حتّى إنّها تكاد تكون مستحيلةً في الوقت الحاضر، إذا آثرت الكنائس أن تبقى على وحدتها وألّا تنخرط في انشقاق تلو آخر. هذه العمليّة التغييريّة ليست مرهونةً بتشكّل المجتمع المدنيّ في سوريا مع أدواته الضاغطة، ولا سيّما الإعلام، فحسب، بل أيضاً بقيام طبقة سياسيّة جديدة تنظر إلى الناس على أنّهم مواطنون أفراد، لا مجرّد جماعات دينيّة يتزعّمها بطريرك أو مطران بوصفه رأس القوم، وذلك بحسب المفهوم الموروث من أزمنة السلطنة العثمانيّة.هذا كان فحوى الجواب للصديق الأستاذ المتقاعد، على أمل أن يكذّب الماء الغطّاسين جميعهم.