2025- 01 - 19   |   بحث في الموقع  
logo هذا ما روته شاهدة عيان على حرائق لوس أنجلوس logo البطريرك الراعي: يشعر اللبنانيّون بالإنشراح ازاء اهتمام رؤساء الدول بدعم لبنان ومساعدته logo اتفاق وقف إطلاق النار في غزة يدخل حيز التنفيذ logo المفتي قبلان: الطموح بالحكومة أن تكون حكومة لكل لبنان بحيث تعمل بعيداً عن الهوية الطائفية logo المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: الوزارات والمؤسسات الحكومية على جاهزية كاملة لاستئناف عملها logo كوريا الجنوبية: الرئيس المعزول يدعو أنصاره إلى التعبير عن مشاعرهم سلمياً logo آلاف النازحين يبدأون بالعودة الى منازلهم في غزة مع بدء وقف إطلاق النار logo أسئلة معلّقة برسم المركزي السوري
سوريا.. في الأرقام والصور
2025-01-19 10:25:47

"الوطن هو حيث تتوفر مقومات الحياة لا مسببات الموت"
محمد الماغوط (من كتاب "سأخون وطني")
على مدى 54 عاماً من حكم آل الأسد، حَاصرتنا الأرقام وتحكّمت في مصائرنا. أرقام في برادات المشافي، على صدور جثث المعتقلين، فروع أمنية بالأرقام، مقابر جماعية تحمل جثثها أرقاماً. سجون سريّة، أقبية تحت الأرض، تحتجز أرقاماً مغيّبة قسراً من لوائح الحياة، وسجلّات مرقمة نجتْ من الحَرق. سوريا هي بلد الأرقام اللانهائية.
وعلى الرغم من انني غادرت البلد في العام 2014، أي بعد أعوام ثلاثة من اندلاع الثورة او الحرب، إذ لكلٍ تسميته لما جرى من حوادث كما يراها من وجهة نظره الخاصة، أذكر جيّداً أنه لدى مغادرتي غرفة منزلي، قالت لي أمي إن رحيلنا مؤقت، ولن يطول أكثر من يومين أو ثلاثة، في انتظار أن تتحسّن الأوضاع الأمنية.
كنت اود لو استطعت البقاء في منزلي، محاطة بأشيائي الصغيرة ودفء أهلي، لكنه كان أمراً مستحيلاً. قال أهلي إن المسلحين خطرون، وقد لا ننجو من بطشهم. توقعوا أن تزول أمكنة، وتتبدل معالم المنطقة. كانوا على حق. بيتنا تحول إلى رماد ولم يبق حجر على حجر. تذكرت مشهداً من مسلسل سوري عنوانه "الولادة من الخاصرة". لم أكن أعلم أنه يتحدث عن معاناة حقيقية يعيشها أغلب اطياف بلدي، عندما كان المقدم رؤوف، عديم الرحمة، يمارس القمع في أشكاله المختلفة، وبحسب أسلوب لا يتوافق مع اسمه، الذي يشير إلى الرأفة بما وبمن يحيط به.
صور كثيرة تراكمت في ذهني. أحسد هؤلاء الذين يمتلكون ذاكرة ضعيفة. صادفتُ بعضهم خلال حياتي، وعجبت من نسيانهم لأمور كان من المفترض أن تبقى في ذاكرتهم، لكونها تمسّهم مباشرة. مرّ أمام ناظري الكثير من مقاطع الفيديو والصور، صيف العام 2023. نهر بردى في دمشق الذي اصطبغت مياهه باللون الأحمر. لو حدث الأمر في بلد غير سوريا لجن جنون أنصار البيئة ولكان الاختصاصيون هوّلوا السكان، وعادوا إلى معاجم الكيمياء من أجل اكتشاف سبب المشكلة. وضع البعض فرضيات كأن يكون الماء قد تلّون بالدماء، أو بالصباغ، لم يشبع فضول الكثيرين التفسير المقدّم من محافظة دمشق، التي أرجعت السبب إلى الأمطار وتغير لون التربة. خطر في بالي ما قرأته عن سقوط بغداد على يد المغول، العام 1258، حين قيل إن مياء نهر دجلة تحوّلت إلى الأحمر والأزرق، بفعل دماء القتلى وحبر الكتب التي رُميت في النهر. أما أول ما جال في بال شعبنا فهو لون الدم. هذا اللون الأحمر الذي يوحي بالجراح والقتل. ما هي كمية الدماء التي من شأنها أن تلوّن نهراً؟ هذه المسألة تتطلّب مسلخاً وضحايا لا تُحصى أعدادهم، وطاغية يشبه بول بوت الذي قضى على ما يقرب من ربع سكان كمبوديا. كنّا أوفر حظاً. لم يسقط في سوريا سوى ما يقرب من 400 ألف قتيل، والكثير من هؤلاء ضاع أثرهم، ولا نعرف شيئاً عنهم.
أمّا "المكبس" البشري، فتلك حكاية أخرى. في فيلم "القنّاص" للمخرج أنطوان فوكوا (2007)، وإثر مشاهدة بطل الفيلم إبتكاراً يؤدي إلى أن ينتحر الإنسان من تلقاء نفسه، بإطلاق النار على رأسه من دون إرادته، يقول بوب لي شواغر (مارك ولبيرغ) الذي يلعب دوراً رئيسياً في الفيلم: أي عقل خبيث قام باختراع هذه الآلة العجيبة؟ المكبس، الذي شاهدناه على وسائل الإعلام في سجن صيدنايا، ينطبق عليه هذا الحكم، بل أكثر بكثير مما رأيناه في الشريط السينمائي. آلة خبيثة ووحشية حاقدة، تليق بممارسات القرون الوسطى، حين كان الإنسان، رجلاً أكان أو إمرأة، المتهم بالزندقة، أو بممارسة السحر، يُحرق حياً. الفرق الوحيد بين الحالتين هو أن المغضوب عليه، أو عليها، كان يُحرق في القرون الوسطى في ساحة رئيسية تحت أنظار الجماهير، في حين كان "يُكبس" السجين المتوفى تحت التعذيب في صيدنايا في حضور أفراد معدودين، ليس لهم أي شأن بالإنسانية ومبادئها. أصنام بلا روح، آلات بشرية لا تعرف للرحمة معنى.هذا البلد مر بظروف لا يُحسد عليها منذ ما يزيد عن خمسين عاماً. نصف قرن ليست فترة بسيطة في حياة شعب. كرّس النظام السابق التفرقة الطائفية، من خلال ممارسات لا تخفى على أحد. كان في إمكان عسكري من طائفة معيّنة أن يهين حياً بأكمله، وكانت المناصب الحساسة من حصة الطائفة عينها، في حين كانت السلطة السابقة تزعم أن الجميع لديها سواسية. زعمٌ لم يصمد أمام وقائع الأحداث اليومية، ولم يصدّقه أحد.
تلك النعرات المذهبية المترسخة في أذهان الكثيرين لن تختفي بسهولة. بعد رحيل النظام ومن قاموا عليه، تغيّرت الآية وانقلبت الموازين. لو عومل الجميع على قدم المساواة فعلاً لما برزت هذه الصراعات، أو لكان وقعها محدوداً، علماً أن مرتكبي أفعال الإنتقام، في هذه الأيام، هم في الغالب من الموتورين، أو ممن عانوا شخصياً ظلماً من الصعب نسيانه بسهولة. شاهدتُ على وسائل التواصل الإجتماعي شريطاً يصوّر مشهداً مؤلماً: رجل في العقد السادس من عمره أمسكت بيده فتاتان شابتان، كان يبكي بمرارة، وقلبه يتمزق من الالم. لم أرَ في عينيه حزناً على سقوط النظام ولا سعادة بالسلطة الحالية. كان خائفاً على فلذات كبده. صورة لمواطن، ولكثيرين مثله، ممن لا ترى نظراتهم سوى المجهول، ولا شيء سواه.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top