أمضت الممثلة السورية يارا صبري أكثر من 13 عاماً في المنفى بعد وقوفها إلى جانب السوريين في ثورتهم ضد نظام الأسد، وتحدثت طوال سنوات عن قضايا اللاجئين والمعتقلين والمغيبين قسراً وفضحت انتهاكات النظام وقصفه للمدن والقرى ومخيمات اللجوء، وغيرها. لكنها اليوم تجد نفسها فجأة هدفاً لخطاب التخوين من الفئة السياسية نفسها التي دافعت عنها، بشكل غير مفهوم، لأن شخصية مثلها يجب أن تلاقي الثناء والشكر على موقفها الأخلاقي ودفاعها عن الحرية والديموقراطية.
وقصة صبري ليست الوحيدة هنا. فمع سقوط نظام الأسد، شهدت سوريا عودة العديد من المعارضين من المنافي، من سياسيين وباحثين ومفكرين وناشطين وممثلين، عادوا على أمل المساهمة في بناء سوريا جديدة. لكنهم قوبلوا بحملات تخوين وتشويه سمعة لا تختلف كثيراً عن ممارسات النظام السابق، لمجرد إبداء آراء، أو بعد سرد تصوّرهم لسوريا المستقبلية، كدولة علمانية مدنية.وأصبحت صبري هدفاً لحملات تشويه ممنهجة، وتعرضت للهجوم بسبب منشور انتقدت فيه مديرة "هيئة شؤون المرأة" عائشة الدبس، بعد تصريحاتها عن المرأة السورية، ضمن حملة أوسع من قبل نساء سوريات رفضن أفكار الدبس الإقصائية. كما تعرضت صبري لهجوم إضافي بعد دفاعها عن الممثل عبد المنعم عمايري، الذي تعرض للضرب في دمشق بتهمة "السكر وسب الذات الإلهية". وانتشرت منشورات في مواقع التواصل تتهم صبري بأنها تستغل الثورة لتحقيق مكاسب شخصية في ظهورها الإعلامي.يعكس ذلك نزعة نحو تشويه السمعة كأداة لإسكات أي صوت نقدي، بما في ذلك الممثلان المعارضان لنظام الأسد جمال سليمان وسوسن أرشيد، اللذان واجها أيضاً هجمات مماثلة. فاستُخدمت مقاطع فيديو أو منشورات تخوين لنشر صورة سلبية عنهم واتهامهم بما يخالف القيم المجتمعية "المحافظة" بوصفها أخلاق الأكثرية.ونشر المشاركون في الحملة التحريضية مقطع فيديو لسليمان وهو يرقص أو يشرب الكحول، وتم وصف تلك السلوكيات التي تندرج ضمن الحرية الشخصية، بأنها غير لائقة ومنحلة أخلاقياً خصوصاً من قبل رجل رزين. والهدف منها هو تشويه سمعته بهدف إلغاء شرعيته كصوت نقدي، انطلاقاً من فكرة عدم تمثيله للأخلاق السائدة.وانضم رجل الأعمال وصاحب قناة "أورينت" سابقاً، غسان عبود، إلى الحملة عبر منشور في "فايسبوك" من دون تقديم حجج أو مبررات واضحة: "فرق كبير بين من يحمله أهله على الأكتاف وبين من يستأجر من يحملونه عليها". وأرفق المنشور بصورتين، الأولى للإعلامي فيصل القاسم محمولاً على الأكتاف، والثانية لسليمان في مشهد مشابه عند وصوله إلى دمشق عبر مطار دمشق الدولي. وأضاف: "أخ فيصل، فلتهنأ بمحبة أهلك ومحبتهم لك".هذه التصريحات والحملات تعكس حالة من الاستقطاب الشديد في المشهد السوري، بدلاً من خلق بيئة تدعم الحوار الديموقراطي والنقد البناء. وانتشرت لائحة بأسماء عشرات الفنانين المعارضين لنظام الأسد، من فارس الحلو إلى مكسيم خليل، مروراً بأصالة نصري وعبد الحكيم قطيفان الذي أمضى 9 سنوات معتقلاً في "سجن صيدنايا"، بوصفهم أشخاصاً تسلقوا على الثورة وجنوا ملايين الدولارات في الخارج، بينما كان السوريون الحقيقيون الذين حرروا البلاد من الأسد يعيشون في المخيمات في البؤس.وتلك المقاربة مبنية على معلومات مضللة، لأن معظم أولئك الفنانين توقفت مهنتهم ولم يظهروا في مسلسلات وأفلام بحُكم وجودهم في دول مثل كندا وفرنسا على سبيل المثال. والحال أنه لا محدد واضحاً لخطوط الحملة الراهنة، لأنها لا تصدر عن الإدارة الجديدة بقدر ما تصدر عن أفراد في مواقع التواصل. وينبع الخوف من النقد لدى هؤلاء، من التقاليد التي تقدّس السلطة وتعزز الولاء المطلق وتطلق صفة التخوين والعداء. كما ساهم النظام الأبوي الذي كرسه آل الأسد طوال عقود، في نشر نمط تقديس للشخصيات السياسية، بينما أدى سقوط الأسد إلى فراغ نفسي يسعى البعض إلى ملئه برموز جديدة، من دون مراجعة للمنظومة الفكرية التي كرّست هذا النهج، بموازاة انتعاش مفهوم العصبية القبَلية.ووضع الأفراد في سياق تصادمي مع الثقافة العامة والأخلاق المجتمعية السائدة، هو مشكلة بحد ذاته. والحملة ضمن هذا السياق، تعني أن السوريين المشاركين في التحريض، ينظرون لفكرة الدولة والوطن باعتبار السلطة أكبر وأهم من أفكار الأفراد وحقهم في التعبير عنها، مهما كانت طبيعة تلك السلطة، سواء كانت السلطة السياسية الحاكمة أو الاجتماعية أو سلطة العائلة والدين والأعراف، وغيرها.والحال أن شيطنة أصحاب الرأي المختلف ليست مجرد وسائل سياسية، بل تعكس ظاهرة فلسفية واجتماعية ذات تاريخ طويل. فالديموقراطية ليست مجرد نظام سياسي يعتمد على الانتخابات، بل هي ثقافة تنبع من الإيمان بالحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. والحملة بالتالي ليست مفاجئة لأنها تشكل انعكاساً لعقود من ثقافة قمع نشرها نظام الأسد بين السوريين الذين عاشوا ضمن مجتمع مغلق مقارنة بالمجتمعات العربية المحيطة بهم. والأرجح أنه في المجتمعات التي تعاني قمعاً مستمراً، كسوريا، يصبح النقد البنّاء هدفاً سهلاً للتشويه والتفسير الخاطئ، ويُنظر إلى هذا النقد على أنه خروج عن النسق العام وتهديد للوحدة المجتمعية أو استقرار النظام. هذا الواقع يعكس ديناميكيات الخوف في مجتمعات لم تعتَد قبول التعددية كجزء من الحياة العامة.