كُلّف السيد نواف سلام تشكيل حكومة العهد الأولى، فأعلن الانتصار جمهور مُدُنيٌّ متداخل الكلمات.
تلقَّف المعترضون تكليف التشكيل، فأعلنوا استهجان مسار العمليّة التكّليفيّة، ثم رفضوا المقدمات، مما أوحى أن العُسْرَ سيرافق ولادة المخلوق الحكومي، الذي يُخشَى أن يظلَّ ناقص التمام.
المنتصرُ مُدُنيّاً، وجَدَ في مواجهته المنتصرَ قتاليّاً، نصرُ الأوّل، فوز داخل الحدود. نصر الثاني، مواجهة ناجحة على الحدود. ما يجمع بين النصرين خطابة متشابهة، تجاوزت، وهي تعلن واقع حالها، عدداً من الحدود.
غياب الكلام الثالث عن النصرين، يبقي كل نصرٍ في إطار من يشرحه ومن يهلّل له، ومن يأخذ بمتنه وبهوامشه. تلك هي الحال مع خطاب المقاومة الذي ظلّ وحيد المرجعية، ومفرد اللسان، وتلك هي الحال أيضاً، مع خطاب المُدُنية، الذي ظلّ أشتات قول ومقتطفات جُملٍ مشتركة، تجري على هذا اللسان وعلى ذاك اللسان.
لكن الغياب الظاهر، لا يُلغي قراءة ما هو غائبٌ عن نصوصِ المنتصرَين، وهو يقتضي في الحضور الحاضر الآن، استحضار النقد الضروري، لمن أخذ البلد سابقاً بانتصاره، ولمن يطمحُ الآن إلى تبديل موازين البلد، بانتصاره الذي ينسب إليه القدرة على تجاوز سقوف ما كان ممنوعاً قبل الرئاسيات، فبات ممكناً بعد طول انتظار.عن مقدّمات موقف المُدُنية:ذكّر المحتفلون بتكليف "الرئيس" الإصلاحي بثورة 17 تشرين الأول، سنة 2019. نذكّر أن الخلاف دار حول التسمية، لأن الاستعجال الوصفي، سبق واقع الموصوف الواقعي. لقد كان مُسمّى الحركة الشعبية، أو التحرّك الشعبي، هو الأقرب، لجهة مواكبة المسار التراكمي في الشارع، وفي الحياة العامة، ولجهة ما سيغلب على هذا المسار من سماتٍ عامة، تسمح بخلع اسمٍ عليه، فيكون المسمّى حراكاً أو انتفاضة أو ثورة. النقاش هذا لم يكن ترفاً فكريّاً، بل كان رفضاً لاستعجال سياسي ركب موجته خليط هجين من الجمعيات والأحزاب والقوى، من دون تدقيق، بل من باب "شعبويّة" تركت "للعفويّة" الشبابية، أمور وشؤون حركة شعبيّة نشطة وواسعة، وأمور التصدي لشعارات اللحظة، ولسياسات النظام، أي كلّ ما لا قِبَلَ للحركة الناشئة بالنهوض بأعبائه.
لقد اختلفت قراءة الحراك الشعبي في حينه، والخلاف يتجدد الآن، حول نسبة اختيار نواف سلام كمرشح لرئاسة وزارة قادمة. لم تراكم حركة 17 تشرين، وما حصل الآن ليس اختماراً لذلك التراكم، وما نحن بصدده، ليست قفزة "نوعيّة" ترتبت على "كميّة" عبّدت سبيل "الموجود بالقوة" ليطلّ على المشهد "كموجود بالفعل"، من خلال تعظيم المسمّى، إلى الخلاف حول إعلان نتائجه اليوم، ينجم الخلاف حول الانتصارية "المُدُنيّة" التي ارتكبت، في لحظة ابتهاجها، خطأ الجهر بغلبتها المتحصّلة حديثاً، وخطأ الجهر بمناوأة الشيعية السياسية، ممثلة بحركة أمل وبحزب الله. كان من شأن ذلك السلوك، أن يعقّد مسار التأليف، الذي شهدنا بعض ملامحه في باحة القصر الجمهوري، وأن يعقد التوافقية الجديدة المنشودة، التي لن تستقيم أحوال الكيان في معزل عن إنتاجها بشكل مستدام، وفي صيغ وقوالب متجددة، تستجيب لما يحصل من جديد توافُق، ومن جديد ثقة وجديد تطور، في الواقع، وعلى كل الصعد الوطنية والأهلية والطائفية.
سلوك "المُدُنيّة" لم يكن سلوكاً ديمقراطياً استيعابيّاً، أو التفافيّاً، أو مناوراً، أو مداوراً، في أضعف الأحوال، بل برز كسلوك "ثأري"، أو سلوك تفوق، أو سلوك طلب نزول المنتصر بمقاومته، وبطائفته، على أحكام من استعجل فظنّ أنه منتصر "بمُدُنيته" التي خالفت "ديمقراطيتها"، تلك التي كانت عنواناً لحراكها وتحركاتها، وغطاءً لما ارتأت اعتماده في ميزان ممارستها.
لقد كانت المُدُنيّة غير موفّقة في بدايتها، ولها في ذلك عذرُ حداثة النشأة، وها قد عاد التوفيق فجفاها، ولا عذر لها بعد أن انقضت سنوات على تجربتها التي لم يشتدّ عودها. اندفاعة وطموح البداية، عادا ليتكررا في صيغة عدم تدقيقٍ في حسابات وموازين ما يؤمل ألاّ يكون من علامات النهاية.عن مقدّمات القتاليّة:لا بأس من استعادة السيرة، ولا بديل من سرد الوقائع التي حملت المقاومة المقاتلة إلى محطتها الحاضرة. لقد نشأت أجيال لم تعرف من أحوال المقاتلين اليوم، أكثر ما ترويه لهم آلة الإعلام الخاصة، ومنابر الخطابة ومنتديات ومراكز الثقافة... لذلك يقتضي الأمر تصحيحاً "معلوماتيّاً" ليتسنّى لقارئ الآخر المختلف والمخالف، أن يكون على علمٍ بأسباب الاعتراض والاختلاف. كما هو معلوم، لقد ورثت المقاومة الحالية مقاومة وطنيّة سابقة، عاشت معها، ثم ألغتها، ثمّ حاصرتها كقوى وكإمكانية حضور سياسي ذي وزن، أو ذي تأثير.
المبارزة بالتاريخ، لا تعطي قَصَبَ السبق للمقاومة الإسلامية، بل يظلّ "علامة" حصريّة اسمها المقاومة الوطنية اللبنانية، التي انطلقت أثناء اجتياح العدو الإسرائيلي مدينة بيروت سنة 1982.
وإن شاء أهل المقاومة الإسلامية ذهاباً إلى تاريخ سابق على سنة 1982، قابلهم أهل المقاومة الوطنية اللبنانية بتاريخ يعود إلى سنة 1948... إذن لا مبارزة بالتاريخ، بل احتكام إلى آثار هذا التاريخ، وذاك التاريخ.
في الحاضر الرئاسي، يُركز الاهتمام على حزب الله وحركة أمل، كفصيلين مقاتلين، لا يتشابهان في النشأة وفي الأداء وفي المرجعيّة، لكنهما يتقاطعان في إدارة الشأن السياسي العام والخاص، منذ ما بعد اتفاق الطائف وحتى تاريخه.
ما يجب الحذر منه في هذا المقام، عدم الخلط بين "الحركة والحزب"، وعدم الذهاب بتحالفهما إلى حدود التطابق. هذا موضوع يستحقّ معالجة خاصة، تقتضيها السياسة الوطنية الداخلية، ويقتضيها الفهم الضروري لبنية ومسار وتكوّن الشيعية السياسية.
عودٌ إلى موضوع الساعة، لم يكن الخلاف مع "المقاومة" على مسألة الصراع ضد إسرائيل، بل كان حول أساليب هذا الصراع، وحول أمر إدارته، على قاعدة التوافق اللبناني العام، وبالاستناد إلى مرجعيّة الدولة الواحدة.
ولم يكن الخلاف مع الثنائي على الانتصار لفلسطين، بل دار الخلاف حول مسألة "حصة لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي"، وحول معنى ومغزى إبقاء الحدود اللبنانية مفتوحة، في وقتٍ أقفلت فيه كل الحدود. لقد سبق للمقاومة الوطنية اللبنانية أن أعلنت، بلسان أحزابها، اعترافها بخطأ سياسة تحميل لبنان ما لا يحتمل، إذن لماذا يجيز "الوطنيون" لغيرهم، ما أعلنوا تراجعهم عنه، واعترافهم بأنهم ارتكبوا الدخول في مسالكه؟؟
ما يطالب به المختلفون اليوم، وقوف المقاومة الإسلامية أمام سلوكها هي، انطلاقاً من صفحة التدخل في القتال السوري، ومن صفحة التمدّد صوب الساحات العربية، وحتى حرب إسناد غزّة التي وقع لبنان تحت ثقل نتائجها التدميرية.
وقفة المقاومة أمام مسيرتها هذه، ليست شأناً خاصاً بها، بل هي مسؤولية يشاركها فيها اللبنانيون الآخرون. الشراكة ضمانة وصول إلى فهم مختلف، يسهّل السبيل أمام إنتاج تفاهمات مختلفة.
مما يجب استبعاده لغة وسياسة، هو المنطق الانتصاري، الأحادي، الذي يكتب نصّه بلغته الخاصة، دون استعارات، والمنطق "التغلّبي"، الذي صار معلناً من دون توريات، والشرح الافتراضي الذي يفرض مدخل القراءة، ليجرّ السامع إلى التسليم بمخارج خلاصاتها... هذا سلوك مختلف، فيه من المسؤولية ما يستدعي انخراط مسؤوليات أخرى معه، وفيه من الإيجابية ما يستدرج ابتكار إيجابيات مقابلة، وهذا وذاك مما يسهّل إعادة إنتاج السلوك الحالي، بعد حلول رئيسين جديدين في سدتيّ مسؤولية، وبعد مشهد "الامتناع" الذي تمنطقت به شيعية حركة أمل، وشيعية حزب الله.ماذا عن الآن:عنوان واحد يتقدم على سائر العناوين في اللحظة الراهنة، هو عنوان انتصار الداخل الوطني على سائر الدواخل الأهلية.
من هي القوى المرشحة لذلك؟ لا يمكن الحديث عن قوى متماسكة منتظمة، بالمعنى الذي تتخذه التشكيلات الحزبية في أدائها، لكن الحديث يظلّ ممكناً عن العمل على إنشاء تحالف وطني واسع يضمّ سائر أطراف "المُدُنيّة"، ومن مختلف المواقع الرسمية والشعبية، على أن ينهض ذلك التحالف على أسس "ألف باء" تحديد الأهداف، والوسائل، وأشكال التنسيق، وهياكل الانتظام.
المهمة الأولى التي تواجه المُدُنية اليوم، هي مهمة ردع الأهازيج الانتصارية، والذهاب الجدّي صوب الإسهام في اقتراح المقاربات المجدية لأوضاع الأهليات اللبنانية، فهذا مما يقرّب هذه الأخيرة نحو الاقتراح المجدي للوضع الوطني العام. ولنذكُرْ في هذا المجال، ضرورة محاذرة حديث الهزيمة لدى استعراض مسألة المقاومة، فالهزيمة وحتى إشعار آخر، ليست شأناً حزبياً أو حركيّاً، بل هي شأن طائفة بأمّها وأبيها. في السياق، يجب مغادرة أوهام تنصيب مسؤولين مرجعيين من بعض أفراد الشيعة، وإن كان أولئك لا تعوزهم الكفاءة، بل تعوزهم الصفة التمثيلية الحقيقية. التمثيل مهمة مستدامة، وانتزاعها من قبل الحركة الشعبية، ومن أوساط الأهليات الحالية، مسؤولية كل من يتصدّى للإصلاح الصعب، على صعيد الحزبيّات وعلى صعيد الأفراد والجمعيّات، سواءً بسواء.
أما المقاومة، ومن خلال من يمثلها الآن، فمطالبة بمراجعة شاملة، يعيدها إلى جادّة اللبنانية الداخلية العاملة، بعد سنوات الاغتراب عن الاستماع لصوت هذه اللبنانية. ستكون "الشيعية" الثنائية في موقع الموقف الصحيح، عندما تستجيب بسلاسة لمطلب الانخراط في اللحظة السياسية اللبنانية الجديدة، فتكون قوةً من قوى انطلاقها ونجاحها وانفتاحها، وقوة من قوى استعادة السيادة وتحصين الاستقلال وتعزيز الحوار بين مختلف أطراف البنية الأهلية اللبنانية. هل يعادل هذا الانخراط أوهام الكسر التي أشاعها بعض من أخطأ من المدنيّة؟ لا بالطبع، والعكس هو الصحيح، لأن في الانخراط انتصار للبيئة على ذاتها، وانتصار للبيئات الشبيهة بها. هل في ذلك إقصاء أم استبعاد أم عدم اعتراف بوزن "مكوّن" لبناني بعينه؟ لقد أجاب الرئيسان عون وسلام بالنفي، وأكّدا المشاركة بالإيجاب. هل يغادر الثنائي "التجهم" الذي أبدياه؟ تلك هي المسؤولية المنتظرة. وهل تبدل المدنيّة الصياح الذي سارعت إليه؟ ذلك هو السلوك المأمول. المسؤولية المشتركة الواحدة، هي البديل عن انتصاريتين مسدودتي الأفق، في الحالة اللبنانية المعلومة.