عاد الهاجس الأمني بقوة في الأيام الماضية، خصوصاً في حمص والساحل، حيث تمكنت قوات الأمن من السيطرة بسهولة على محاولات لإثارة الفوضى أو المشاكل الطائفية من قبَل بعض شبيحة العهد البائد. ونال الموضوع الأمني وتعقيداته اهتماماً يوازي الاهتمام بالظواهر الدعوية التي تزايدت في الوقت نفسه، وأثارت جدالات على وسائل التواصل الاجتماعي.في الغضون، تابعت السلطة نشاطها الخارجي الذي يهدف إلى طمأنة الدول الفاعلة إقليمياً، وإلى الحصول على دعمها المالي، ودعمها السياسي لدى دوائر القرار الدولية. واستمر السيد أحمد الشرع في استقبال وفود خارجية، واستقبال رجال أعمال سوريين ينشطون في الخارج، وقد عبّر البعض منهم عن تفاؤله بالمستقبل، ما يعني أنه حصل على إشارات مطمئنة تخص البيئة الاقتصادية في البلاد. بدورها صرّحت ميساء صابرين، حاكمة مصرف سوريا المركزي، أن المصرف لديه ما يكفي لتغطية رواتب القطاع العام حتى بعد زيادتها بنسبة 400%، وهذا يدعو إلى التفاؤل رغم تعثّر دفع الرواتب "بلا زيادة" هنا أو هناك لأسباب يُفهم أنها إدارية.
يُستنتج من مجمل الأخبار أن سوريا تودّع مرحلة سُمّيت بـ"اقتصاد السوق الاجتماعي" إلى عصر اقتصاد السوق الحر، وهذه النقلة تبدو من البديهيات التي لا تخضع لنقاش عام، أسوة بالاهتمام الواسع بالموضوع الأمني والدعوي، باستثناء إشارات قليلة متفرقة عن الكلفة الاجتماعية للتحول الاقتصادي. وأهم ما يجعل النقلة في مرتبة البديهية هي النظرة السلبية لدى نسبة كبيرة من السوريين إلى اقتصاد القطاع العام الذي سيؤول إلى الزوال، وهكذا يُعرَّف اقتصاد السوق الحر ضمناً بأنه النقيض لمساوئ سلفه، من دون أن يُحكى عن الجديد ما يليق بتحوّل ضخم في بنية الدولة السورية ككل.نتحدث هنا تحديداً عمّا لا يتعلق بالجانب الاجتماعي الذي يستحق بحثاً منفصلاً. وأهم ما لا يُحكى ويناقش هي العلاقة بين البيئة الاقتصادية وشكل الدولة السياسي، حيث يأخذ النقاش "القليل" في شكل الدولة منحى طائفياً بمعظمه، وبحيث تبدو مطالبات البعض بالديموقراطية متسرعة في حدها الأدنى، أو غير مناسبة بالنسبة للذين يتحدثون بمنطق الغلبة، وبأحقية الطرف الغالب بتقرير مصير الحكم والدولة. وفق بعض الجدالات، تظهر المطالب الديموقراطية كأنها فئوية، أقلوية أولاً لصدورها عن أبناء "الأقليات"، وأقلوية ثانياً لصدورها عن "نخب" ثقافية لا يندر إطلاقاً أن تُهجى بزعم ابتعادها أو انفصالها عن الواقع.
هذه المهاترات تضيّع، في أحسن ظن، فرصة الانتباه إلى التحدي الواقعي والحقيقي فيما يخص التحول المنتظَر. فمن البديهيات المتصلة باستقطاب رأس المال تأمين بيئة آمنة له، وهذه البيئة تقوم على الاستقرار السياسي، وأيضاً على وضوح الرؤية والتوجّه الاقتصاديين المدعومين (بالضرورة) ببيئة قانونية تحمي الرأسمال. ويشتد إلحاح هذه المطالب إثر حدوث اختلال شديد في استقرار الدولة، ثم يشتد أكثر لأن الحالة السورية كانت طاردة استثمارياً منذ بدايات حكم البعث، وإعادة الثقة لن تأتي دفعة واحدة، أو بقرارات غير جذرية.اليوم ثمة بلد مدمّر منهك، يحتاج مئات مليارات الدولارات من أجل التعافي، وقسم معتبر منها سيأتي عبر مانحين دوليين. إلا أن التعويل على المانحين يعني الاعتماد على المال السياسي، لأن جزءاً على الأقل من المنح سيكون مشروطاً بمواقف سياسية. كذلك سيكون حال الاستثمارات التي تأتي مدفوعة فقط بالاعتبارات السياسية، لأنها ستنسحب إذا حصل الافتراق السياسي لاحقاً. لدينا تجربة على هذا الصعيد مع المساعدات الخليجية التي قلّما انقطعت أيام الأسدَيْن، ولم تكن لها فائدة على مستوى التنمية الاقتصادية للبلاد.
في الواقع ثمة خشية من أن تعتمد سوريا في السنوات المقبلة على المساعدات الخارجية، وعلى القليل المتوفر من ريع النفط والغاز، فيكون النشاط الاقتصادي الغالب مزيجاً مما هو ريعي و"إن جي أوزي". وجه الخشية هو أن يُضحّى بالاقتصاد مرة جديدة على مذبح السياسة، وأن تكون الأخيرة هي الطاغية والمهيمنة، والمعيقة تالياً للاستثمارات المنشودة. الحديث هنا، بلا لبس، عن الترابط العضوي بين الحرية والديموقراطية في السياسة وبين اقتصاد السوق الحر.لا توجد ليبرالية اقتصادية من دون ليبرالية سياسية. النموذج الصيني هو ما كان يُشار إليه بعنوان "اقتصاد السوق الاجتماعي"، ويتم التخلّي عنه حالياً، بصرف النظر عما إذا كانت العلّة فيه أو في تنفيذه من قبل العهد البائد. أما تجربة الخليج في الفصل بين الليبرالية الاقتصادية وشقّها السياسي فهي مسنودة أساساً بريع نفطي ضخم، وبأنظمة وراثية مقبولة اجتماعية بما يكفي للاستقرار السياسي. الأمر بالطبع مختلف مع نظام اعتُدي عليه بتحويله إلى جمهورية وراثية، وبلد لا يملك فائضاً ريعياً، بل لا يستطيع الإقلاع بقواه الذاتية.
الحل المستدام المطروح هو باقتصاد السوق الحر، وهذا يقتضي الوضوح فيما يخص التحول الديموقراطي، لئلا ينتهي شعار اقتصاد السوق إلى مجموعة ضيقة من المستثمرين المعتمدين على علاقاتهم الشخصية بالسلطة، لا على الثقة المعممة بالمناخ الاستثماري في البلد. وبما أن هذا هو الحل المطروح فمن المهم النظر إليه، وإلى عوامل إنجاحه.في النظر إليه، يمكن القول من الجانب الإيجابي إن نهضة اقتصادية هي وحدها التي ستتكفل مع الزمن بحل العديد من المسائل العامة. منها، على سبيل المثال، المسألة الوطنية التي ستأخذ طريقها إلى الحل مع تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية. وفي الشق الداخلي، من المأمول للنشاط الاقتصادي أن يصطنع روابط بين السوريين أنفسهم، تقوم على لغة المصالح وتتجاوز الانقسامات الدموية السابقة، خصوصاً إذا كان الاستثمار الاقتصادي قريباً من التوازن على المستوى الكلي، وتستطيع الدولة لأجل هذا الهدف منح تسهيلات ضريبية تتعلق بمكان المشروع ونوعيته.
أما عن إنجاح هذا التطلع، فيحتاج أن يتم الحوار حوله منذ الآن، وأن تكون السلطة الحالية جزءاً من الحوار العام، فتقدّم رؤيتها المتكاملة اقتصادياً وسياسياً إلى العموم. إن مجيء رجال أعمال إلى دمشق، ثم تصريحاتهم المتفائلة، شأن مختلف عن عودتهم مع رؤوس أموالهم، والحديث أولاً عن مستثمرين سوريين يمكن لهم المساهمة بعشرات مليارات الدولارات. بالحوار، يمكن وضع الكثير من القضايا في مكان مختلف عن الجدالات السقيمة، فمثلاً لا يمكن تنشيط القطاع السياحي مع أيديولوجيا حاكمة متزمتة، ولا يمكن أيضاً تنشيطه (داخلياً وخارجياً) من دون صناعة ترفيه نشطة.واحد من أوجه الصراع السياسي في المستقبل أن يختلف السوريون على الدور الاجتماعي للدولة وعلى توزيع "الثروة"؛ هذا يأتي بعد إنتاج الأخيرة، وعلى نحو مغاير لما كان عليه خلال عقود عندما كانت السلطة مدخلاً لاحتكار السياسة وريع الثروات العامة معاً. وبسبب الترابط بين السياسي والاقتصادي يمكن القول أن الديموقراطية في الحالة السورية تساوي تأمين لقمة الخبز، الآن وللأجيال المقبلة، وهي ليست ترفاً نخبوياً أو أقلوياً. وإذا صدقت النوايا فمن المستحسن الانتباه إلى البعد الاقتصادي للديموقراطية، أما معاندتها بمزاعم عديدة، في رأسها الخصوصية الثقافية، فلن تؤدي إلا إلى إعاقة سوريا الجديدة منذ ولادتها.