أكثر ما يثير الانتباه في تصريحات الممثل السوري باسم ياخور الأخيرة، بعد سقوط نظام الأسد، ليس الموقف الدفاعي الحاد حيث وجد الفنان الشهير نفسه مضطراً لاتخاذه لمرة الأولى ربما مع هزيمة الجهة السياسية التي مازال يدعمها ويلمع صورتها، ولا العنجهية والفوقية التي خاطب بها معارضي الأسد المخلوع، من إسلاميين وعلمانيين، لأن ذلك مألوف في لغته ولغة زملاء آخرين له، مثل سلاف فواخرجي ومصطفى الخاني. بل اللافت هو السبب الذي قدمه لدعم نظام شمولي يمارس انتهاكات حقوق الإنسان بشكل ممنهج، عن قناعة تامة ورضى لا يمكن بموجبهما "التكويع" نحو التطبيل للسلطات الجديدة.
وقال ياخور أن دعمه لنظام الأسد انطلق وما زال، من أنه يشكل الضامن الوحيد لعدم تقسيم سوريا بوصفها وطناً للسوريين. وهي ليست فقط مقاربة غير صحيحة سياسياً وسامة فكرياً، بل أيضاً هي فكرة ساقطة أخلاقياً، لأن معنى الوطن المشوّه في هذا السياق يأتي من مفهوم الأرض التي تأتي فوق كرامة الإنسان المنتمي إليها وفوق حقوق المواطنين والقانون بشكل يجعل تلك "القدسية" تبرر كل الانتهاكات التي قام بها نظام الأسد وكانت حاضرة في مشهد المعتقلات المنتشرة في كل مكان، فوق الأرض وتحتها، بما كان يجري فيها من تعذيب وقتل وتصفية واعتقال وتغييب قسري، طوال 54 عاماً.وتنبع الفكرة القائلة بأن الوحدة وحماية الأرض لهما قيمة أعلى من حقوق الإنسان، من مصادر أيديولوجية وتاريخية وثقافية عديدة، غالباً ما تكون متشابكة مع الاستبداد والقومية والعسكرية. وفي الحالة العربية كانت أحزاب مثل "البعث" في سوريا تروج لها منذ عقود بعد الحرب العالمية الثانية، من دون نسيان إرث المصري جمال عبد الناصر في هذا السياق، علماً أن الجذور الفلسفية لها تأتي عموماً من أفكار ترتبط بالاستبداد وعبادة الدولة، قبل ظهور الديموقراطية بشكلها الحالي، كما هو الحال لدى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679).وجادل هوبز في كتابه "لوياثان" بأن السلطة المركزية القوية ضرورية لمنع انهيار المجتمع إلى الفوضى، وشرح جزء كبير من الكتاب ضرورة وجود سلطة مركزية قوية لتجنب الشقاق والتقسيم والحرب الأهلية. وفيما كان ذلك منطلقاً للحديث عن الانفصال عن الكنيسة وضرورة التحول نحو مجتمع مدني يضطر فيه الأفراد لإنشاء عقد اجتماعي، فإنه تطور لاحقاً بشكل كبير في المجتمعات الديموقراطية التي لم تعد فيه الدولة هي الهدف بقدر ما هي الحامي لحقوق الأفراد الذين تشكل فردانيتهم أسس بناء المجتمع، بغض النظر عن الأيديولوجيا، والهويات الدينية والطائفية، والتوجهات الجندرية، وغيرها من تفاصيل.وتحرف الأنظمة الديكتاتورية غالباً تلك الفكرة، مروجة للاعتقاد بأن الحكم الاستبدادي هو الطريقة الوحيدة للحفاظ على النظام والوحدة، وهو ما كان نظام الأسد يمارسه طوال عقود، رغم أن ذلك الأسلوب في الحكم يفتت المجتمع في الواقع لدرجة نفي أي إمكانية لخلق هوية وطنية، وهو ما يظهر اليوم بشكل واضح بين السوريين الذين يعودون في خطابهم إلى هويتهم الطائفية والإثنية للحديث عن مخاوفهم بشأن سوريا المستقبلية، في فترة انتقالية تمر بها الدولة ككل.والحال أن هناك فارقاً بين مفاهيم الدولة والوطن والحكومة، لكن الأنظمة الشمولية، كما كان الحال في سوريا، تساوي تلك المفاهيم وتسطحها وتجمعها معاً في صورة القائد المخلص، وتحاول إقناع المواطنين فيها بأن الولاء للنظام يعني الولاء للوطن، وهذا الخطاب متجذر بعمق في دعاية نظام الأسد، ويمكن تلمسه في مقابلة ياخور الأخيرة، حيث يظهر مصدقاً لتلك الأفكار ومروجاً لها بوصفها الحقيقة الوحيدة التي بنى عليها نظامه العقائدي (belief system).هذه الأيديولوجية ليست فريدة من نوعها في سوريا، بل هي موضوع متكرر في التاريخ البشري، خصوصاً في المجتمعات الخاضعة للحكم الاستبدادي أو التي لديها تاريخ من التهديدات الخارجية، من الصين المعاصرة إلى ألمانيا النازية، مروراً بالاتحاد السوفياتي البائد.وفي حالة سوريا، كان ذلك الخطاب مرتبطاً أيضاً بخطاب يعلي من الوطنية والقومية (Nationalism) مع تصوير البلاد مهددة دائماً بخطر الغزو الخارجي أو المعارك الوجودية مع الجارة إسرائيل، أو الحروب الأهلية أو محاولات الانشقاق من طرف الأكراد أو انتشار الإرهابيين في إشارة للمعارضة السورية بعد العام 2011، مع ربط ذلك كله بالمؤامرة الكونية، من دون نسيان الجانب التاريخي والديني الذي يتبناه كثير من السوريين، بغض النظر عن موقفهم السياسي، ويرون فيه أن السوريين "خير أمة أخرجت للناس" من زوايا مختلفة: دينية إسلامية لكون دمشق حضرت في نبوءات دينية عن نهاية العالم، ومسيحية من ناحية كون البلاد مهداً قديماً للمسيحية حيث ما زالت قرى في القلمون السوري تتحدث السريانية، وسياسية/ثقافية بسبب عقود من الحكم الشمولي الأسدي الذي عمل على تكريس تلك الفكرة بشكل ممنهج.وتظهر مقاربة ياخور لما يحدث في سوريا كيف جعلت عقود من الاستبداد، الناس يعتادون على إعطاء الأولوية للبقاء على الحرية، حتى من قبل أفراد يفترض أنهم من "النخبة" الذين ترتبط مهنتهم كفنانين بمناخ الحرية قبل أي شيء آخر. لكنهم في الواقع يقدمون وجهات نظر تقلل من أهمية الأخلاق، وتركز بدلاً من ذلك على نتائج مثل القوة والاستقرار والوحدة الإقليمية، بشكل يبرر المجازر والتعذيب والانتهاكات والفقر بوصفها مشاكل ثانوية يمكن معالجتها لاحقاً بمجرد أن تصبح الدولة آمنة، وهو وعد لا يمكن أن يتحقق بطبيعة الحال، لأنه جزء من دورة ذاتية التغذية.هذه النقطة بالتحديد تشكل جوهر النضال من أجل سوريا المستقبلية، التي يرتجى أن تصل لبناء دولة مدنية تعددية وديموقراطية، لأن الوطن الذي يبيح دماء أبنائه لمجرد بقاء ذلك الوطن متماسكاً، ليس وطناً، بل هو سجن ينبغي تحطيمه والتحرر منه، حتى لو كان الثمن هو تفتيت ذلك السجن إلى كيانات فيدرالية أو دول جديدة كلياً. فالوطن لا يتحدد بالحدود السياسية له ولا بالأيديولوجيا التي يتبعها حكامه، بل بكرامة أفراده وشعورهم بأنهم ينتمون إلى سياق أكبر يدافع عنهم ويحميهم بغض النظر عن هوياتهم.واليوم، حتى في ضفة السوريين المعارضين للأسد سابقاً، يتواجد خطاب مشابه لما يقدمه ياخور، يعلي من قيمة الدولة ويؤجل كل مشاكل البلاد الأخرى والحديث عن هوية البلاد إلى وقت لاحق بدعوى الأمن والحفاظ على الاستقرار، إلى حد إطلاق خطاب التخوين على معارضين بارزين أمضوا معظم حياتهم بعد العام 2011 في المنافي أو تعرضوا للاعتقال والتنكيل من قبل الأسد، لمجرد حديثهم عن أولويات مختلفة عن أولويات وحدة سوريا وتمكين السلطة الجديدة فيها.ولا تساعد الفوضى الحاصلة في سوريا اليوم ولا طبيعة الفصائل الإسلامية التي أسقطت النظام، في تهدئة المخاوف المحقة التي تظهر بشكل مظاهرات محدودة هنا وهناك وعبر مواقع التواصل، مع غياب وسائل الإعلام الرسمية عموماً وتوقفها عن العمل، وعدم توجه حكام سوريا الجدد إلى الشعب السوري بخطاب واحد مباشر حتى اللحظة، ما يخلق ككل بيئة مثالية لنشر الأخبار الكاذبة وتضخيم المخاوف المحقة. بينما تملأ الفراغ شخصيات مثل ياخور ممن يعيدون تدوير خطاب السلطة القديم الذي ينذر بسيناريو الثورات المضادة التي حصلت في دول الربيع العربي كتونس ومصر وأعادت تدوير الاستبداد بوجوه جديدة.