بعلبك مدينة الشمس والأصالة، مرَّت في أزقتها حضارات كثيرة، من الرومان للبيزنطيبن إلى الفينيقيين والعثمانيين والعرب. يكاد كل حجرٍ من حجارتها ينطق بقصة من تاريخها العابق، بجانب قلعتها الرومانية، ومعبد باخوس والمسجد الأموي التاريخي. وهنا يقف محراب مسجد الظاهر بيبرس الصخري، شاهدًا على تَنَوُّع تاريخها وغناه الإنساني والثقافي.
منذ ثمانمئة عامٍ وحتَّى تسعينيات القرن الماضي يعرف أهل بعلبك وزائروها أنَّ مسجد مرجة رأس العين يحمل اسم مسجد السلطان المملوكي "الظاهر بيبرس". لكن "حزب الله" سيطر عنوةً على المسجد في مطلع التسعينيات مستغلاً غياب الدولَّة اللبنانية والدعم الكامل من سلطة الوصاية السوريَّة. وغَيَّر اسم المسجد وهويته، وبَدَّل معالمه ليصبح مسجداً شيعياً، مُسقِطًا عليه جدليَّة مذهبيَّة تاريخيَّة تحت أسم "مسجد رأس الحسين". وكل ذلك ضمن السرديَّة التي تخدم عقيدته السياسيَّة الدينيَّة. وبعدها قام بكل ما تقتضيه مكونات وعناصر الهويَّة الجديدة، من ديكورات، ورايات، ومُجَسَّمات إيرانيَّة المصدر والرمزية.سند المُلْكيَّة والأوقافيشير قرار القاضي العقاري الصادر بتاريخ 3 تشرين الثاني عام 1931 إلى أنَّ المسجد قائم على العقار رقم 3566 مساحته 1568 متراً مربعاً مفروغًا 2400 سهمًا، ملكيته عائدة لوقف الطائفة الاسلامية في بعلبك. وتَمَّ تسجيله في مكتب زحلة العقاري بتاريخ 22 أذار 1937 ميلادي، تحت الرقم 155(سند الملكية موجود في دائرة أوقاف بعلبك)، وينص صراحةً أنَّ حق الانتفاع منه والتصرف به يعود لأوقاف الطائفة الاسلامية في بعلبك. علمًا أنَّه في تلك الفترة لم يكن من دائرة أوقاف غير الأوقاف السٌنية.المسجد كما ورد تعريفه في أرشيف بعلبك، هو مسجد الظاهر بيبرس بعلبك - رأس العين - على ضفاف بُرْكَة البَيَّاضة. ويعرف في المدينة بإسم مسجد رأس العين، بُنِيَ سنة 61 هجري/ 681 ميلادي فوق أنقاض معبد فينيقي قديم، بجوار نبع رأس العين. واستخدم في بنائه حجارة المعبد. ثم قام السلطان المملوكي الظاهر بيبرس بتجديده وتوسيعه في سنة 676 هجري / 1277 ميلادي، بطول 50 مترا، وعرض 38 مترا. وبداخله 22 عمودا مُوَّزعَة جعلت المسجد ثلاثة مساجد في مسجد واحد. وبه ست قناطر، ومحراب ضخم ومنبر من الصخر. وله ست بوابات، زُيّنَت حجارتها بنقوشٍ وخطوط هندسية. وتخترق المسجد الرئيسي الأمامي ساقية من نبع رأس العين.الموضوع عالق في المحاكميتَذَّكر غالبية أبناء بعلبك، وجوارها، خصوصاً المسنون منهم، كيف كان المسجد مفتوحًا للجميع. فهو إضافةً إلى جانبه الديني، يُمَثِّل مَعْلَمًا سياحيًا ثقافيًا مُسَجَّلاً في وزارة الثقافة. ويقصده الزائرون من كل المشارب والأطياف، حيث تنتشر قربه المقاهي والمطاعم والمقاهي وملاهي الأطفال (اليوم المسجد تحت سيطرة الحزب بالكامل وفق ما يخدم سياسته).في محاولتنا للوقوف على رأي القيادات السُنِيَّة السياسيَّة في المنطقة، حول الخطأ المقصود الذي ارتكبه الحزب، تلمسنا اليتم المرير. وهناك مواربة مُغَلَّفة بالحرص على الأُخوَّة والتعايش من النواب الحاليين والطامحين للنيابة، ويهربون حتَّى من مجرد إبداء الرأي، فكيف بالرفض والإعتراض؟ النائب ينال صلح، إبن بعلبك وجار المسجد "المحتل"، أكد لـ"المدن": "إنَّ الموضوع خارج اهتماماته ولا يعنيه. فهو نائب عن المقعد السني صحيح، لكنَّه يمثل الشيعي والسني والكاثوليكي والماروني والدرزي".السؤال الذي يطرح هنا: هل باتت المطالبة بالعودة عن هذا الخطأ والتَّعَدي جريمة؟ هل الحرص على حُسِن الجوار يكون بالسكوت على الظلم؟ أليست منابر بيوت الله مخصصة للتذكير بالعدل ومحاربة الظلم؟سماحة مفتي بعلبك الهرمل الشيخ بكر الرفاعي أجاب بديبلوماسيته المعهودة أنَّ "الموضوع أمام المحاكم. البعض يتَذَرَّع أن سند الملكيَّة لم يذكر الطائفة السنيَّة بالإسم بل الطائفة الإسلامية. لكن الجميع يدرك أنَّه بتاريخ تسجيل السند كان يشير لأوقاف الطائفة السنيَّة. وحاليًا هناك شبه اتفاق على تحييد هويَّة المسجد ريثما تبتَّه المحاكم، ولا اعتراض على الحُكم. بل سنعمل به عند صدوره، علمًا أن المسجد مُسَجَّل أيضًا كمَعْلَم أثري تابع لوزارة الثقافة، ولا يجوز إدخال أيٍِّ إنشاءات جديدة عليه، وكل ما جرى إدخاله سابقًا بدون إذن الوزارة بحكم الملغى والباطل".مخطط مدروسسبق وتقدَّمت دائرة الأوقاف السنية في المدينة بعدة دعاوى رسميَّة أمام القضاء اللبناني، بتهم التعدي، والهدم، والتخريب والاستيلاء بالقوة، على عقارٍ عائدٍ لها، وفق المستندات والأوراق القانونية، حسب ما يقول المحامي ر.س. ويضيف أن الموضوع ما زال محط نزاع قضائي في المحكمة. لكن بحكم سيطرة وسطوة قوى الأمر الواقع، تم ترحيل القضيَّة إلى سنواتٍ وسنوات. علماً أن دار الفتوى في بيروت قامت بتكليف محامين من خارج بعلبك حفاظاً على سلامتهم وأمنهم وعدم التعرض لهم. لكن مع تباشير ظهور دولة العدل والعدالة في العهد الجديد يتمنى الجميع أن يُصار إلى حسم الأمور وإعطاء كل ذي حقٍ حقه.ما يحصل في مسجد الظاهر بيبرس في بعلبك، ليس حالةً خاصَّة ناتجة عن التباس عقاري مصطنع، بل مخطط مدروس، تمامًا كما هو حاصل في بلدة لاسا من اعتداء على أملاك الكنيسة المارونيَّة. وهي حلقة في مسلسل ومخطط تاريخي استراتيجي، يهدف إلى إحداث تغيير في هويَّات المنطقة بكاملها، وإلى تبديل ديموغرافي في بعض بلدانها كما كان وضع سوريا وبعض العراق. وكل الأمل أن يصار لإحقاق الحق، وعودة مسجد الظاهر بيبرس لأصحابه تكريسًا للعدالة وانبثاقاً لفجر لبنان الدولة، كي لا يبقى بيننا ظالمٍ ومظلوم تحت سقف واحد.