توفي المخرج والرسام والفنان البصري وموسيقي ديفيد لينش الذي يعدّ أحد عمالقة السينما الأميركية وصاحب فيلم "مالهولاند درايف" الشهير، ومسلسل "توين بيكس"، عن 78 عاماً، وفق ما أعلنت عائلته أمس الخميس. وفي بيان نشر في "فايسبوك"، قالت العائلة: "نحن، عائلة الإنسان والفنان ديفيد لينش، نعلن ببالغ الأسى وفاته". وأضافت عائلة لينش: "هناك فجوة كبيرة في العالم الآن بعد رحيله عنا".ولم تذكر أسباب الوفاة، لكنّ ديفيد لينش أعلن في آب الفائت أنّه يعاني انتفاخاً في الرئة بسبب "سنوات من التدخين"، وكتب يومها في منشور عبر منصة إكس أنّ "المتعة لها ثمن"، و"إن ما تزرعه هو ما تحصده... المدخن يلعب بالنار حرفياً. وقد تلسعه. لقد غامرتُ، لكن النار لسعتني". وأضاف لينش "إن العيش مع انتفاخ الرئة أمر صعب للغاية. بالكاد أستطيع المشي في الغرفة. الأمر أشبه بالسير في الشارع مع كيس بلاستيكي حول رأسك". في آب (أغسطس) 2024، قال لينش لمجلة "سايت أند ساوند" البريطانية إنه مقيد بالمنزل لأنه "سيكون من السيء جدًا أن أمرض، حتى لو كانت نزلة برد". أكّد أنّ قدرته على الحركة انخفضت وقد يضطر إلى توجيه ممثليه من بُعد لمشاريعهم المستقبلية. ونشر بعد ذلك رسالة مطمئنة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قال فيها: "توقفتُ عن التدخين منذ عامين، وأجريت فحوصاً طبية أخيراً، والخبر السار أنّ صحتي ممتازة باستثناء إصابتي بانتفاخ في الرئة، وأنا سعيد جداً، ولن أتقاعد مطلقاً".
يُعرف ديفيد لينش بأسلوبه السوريالي والتجريبي، وهو صانع أفلام روائية وبرامج تلفزيونية ما زالت تجذب الجماهير اليوم. صناعة الأفلام التي يقدمها لينش ـ كاتب ومخرج أفلام كلاسيكية ومسلسلات مثل Twin Peaks وBlue Velvet وMulholland Drive ـ متماسكة بأسلوب غريب الأطوار إلى الحد الذي يجعل النقاد لا يستطيعون وصفها إلا بأنها "لينشية". إن "لينشية"، مثل "فرويدية" أو "كافكوية"، ليس من السهل تعريفها. فبالنسبة لبعض الناس، تشير إلى الجودة السوريالية الشبيهة بالأحلام التي تتسم بها أفلامه. وبالنسبة لآخرين، فإن "لينشية" مرادفة لـ"الارتباك".تولى لينش إخراج عشرة أفلام روائية طويلة بين العامين 1977 و2006، نجح في جذب شريحة كبيرة من المعجبين الذين انبهروا بغرابة أفلامه. ويُعدّ ديفيد لينش، المولود العام 1946 في مونتانا (شمال غربي الولايات المتحدة)، من كبار المخرجين السينمائيين، إذ أحدث ثورة في مشهدية أفلامه، وترك بصمة في الفن السابع من خلال الأجواء المقلقة التي ميّزت أفلامه. أول افلام لينش الطويلة كان "رأس الممحاة" 1977، في هذا الفيلم الذي يعتبره لينش أكثر أفلامه ذاتية والذي كتبه بعد مولد ابنه الأوّل، يعرض مشاهد لاواعية يظهر فيها رؤيته النقدية لقبح العصر الصناعي وهدير الآلات وانعكاس ذلك القبح في العلاقات الشخصية والجنس والإنجاب.الفيلم كعادة الأفلام السوريالية القديمة، مليء بالرموز الفرويدية التي تعبر عن مركزية الجنس والشهوة. وأنهى لينش فيلمه بتتابع سوريالي خالص، بعرض مشاهد متتالية ومتفرّقة، حيث نرى الطفل الذي يشبه الحيوان المنوي، والعضو الذكري الذي يخرج من الرأس، والفراخ الحيّة المطهوة، والكهف المظلم. "رأس الممحاة" هو أكثر أفلام لينش سوريالية وأكثر أفلامه غير الملتزمة بقواعده التي أرساها في أفلامه التالية.(فيلم "الرجل الفيل")ومن بين أعماله التي يصنّفها النقّاد ضمن الروائع، "الرجل الفيل" العام 1980، دراما مستوحاة من حادثة حقيقية في العصر الفيكتوري في بريطانيا عن رجل مشوّه استخدم سابقاً في العروض والألعاب العامة قبل أن ينقذه شخص حاول إعادة الثقة والقيمة الإنسانية إليه. هو فيلم مستقل الإنتاج لكن نجاحه دفع "باراماونت" لتبنيه. حصل الشريط الذي تولى بطولته جون هيرت وأنتوني هوبكنز على ثمانية ترشيحات لجوائز أوسكار، وفاز بجائزة سيزار لأفضل فيلم بلغة أجنبية العام 1982. وفي العام 1990، كان لينش وراء مسلسل "توين بيكس" الشهير، الذي أحدث ثورة في هذا النوع، وحوّل ملايين المشاهدين إلى محقّقين تستأثر باهتمامهم وبمتابعتهم الألغاز التي طرحها المسلسل طوال موسمين. وبعد ربع قرن، تولى العام 2017 إخراج موسم جديد عنوانه "توين بيكس: ذا ريترن".ورُشِّح هذا المدخّن الشره مرّات عديدة لنيل جوائز أوسكار، وحصل على واحدة فخرية العام 2019 عن مجمل أعماله السينمائية. وفي فرنسا حيث يحظى بإعجاب كبير، فاز بجائزة سيزار أخرى في فئة أفضل فيلم أجنبي عن "مالهولاند درايف"، وهو من نوع التشويق المقلق والغامض الحافل بالهلوسة، أدت فيه ناومي واتس دور ممثلة تلتقي امرأة غامضة تعاني فقدان الذاكرة، قبل انقلاب الأمور.(ملصق فيلم "مالهولاند درايف" المستلهم من إحدى لوحات إدوارد هوبر)وكان "إنلاند إمباير" العام 2006 آخر أفلامه، ثم تفرّغ للتأمل التجاوزي وأشكال أخرى من التعبير الفني. وقال في مقابلة مع وكالة "فرانس برس" العام 2017 بمناسبة عودة مسلسل "توين بيكس" أنّ "الأمور تغيّرت كثيراً خلال 11 عاماً، وخصوصاً الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الأفلام السينمائية". وأضاف: "الأفلام التي حقّقت نجاحاً على شبّاك التذاكر ليست الأفلام التي كنت أرغب في صنعها"، واعتبر بأسلوبه الغامض أنّ "الإنسان لا يتحكّم إلا بالفعل، وليس بثمار الأفعال". وتابع قائلاً: "عندما تنتهي من شيء ما، فإنك تفقد السيطرة عليه، والقدَر هو الذي يقرّر".ورغم شهرته، يُقال إن لينش لا يشاهد الكثير من الأفلام. بدلاً من ذلك، يستمد الإلهام من وسيط مختلف تمامًا: الرسم. كما تشير سيرة حياة لينش، إلى أنه قرر أن يصبح فناناً في الـ14 من عمره حين كان يقطن في ألكسندريا في فيرجينيا. وبعد حضوره صفوفاً أيام السبت في كلية كوركوران للفنون في واشنطن العاصمة، خلال السنة الأخيرة من دراسته في الثانوية، أمضى عاماً في كلية متحف الفنون الجميلة في بوسطن. يعقّب: "كنت أكره الكلية في بوسطن. لم يكن الطلاب يقومون بأي عمل، وكان ينتابني إحساس بخيبة الأمل. لكن صديقي جاك فيسك انتقل إلى أكاديمية الفنون الجميلة في بنسلفانيا، فلحقت به. كان مبناها رائعاً وكذلك الجو فيها حيث الطلاب يشتغلون طوال الوقت. شكّل ذلك إلهاماً بالنسبة إلي. كان الوقت الذي أمضيته في فيلادلفيا مهماً جداً، فآنذاك بدأت بصناعة الأفلام".(مسلسل "توين بيكس")في أحد فصول الصيف، سافر إلى أوروبا برفقة صديقه جاك فيسك، لمعرفة ما إذا كان بإمكانهما التدريب مع رسام نمسوي مؤثر يُدعى أوسكار كوكوشكا. ورغم فشل المحاولة، لم تثبط عزيمة لينش، واستمر في الرسم عندما عاد إلى الولايات المتحدة. يقال إنه لم يلتقط الكاميرا فقط لأنه قرر أن يصبح مخرجًا، بل لأنه أراد تحريك لوحاته.تتضمن أفلامه مجموعة متنوعة من الحركات الفنية، بما في ذلك السوريالية والتعبيرية والانطباعية. ومن قبيل المصادفة، تتجنب كل هذه الأساليب المتميزة التمثيل لصالح التجريد. إنها تصور الواقع ليس كما هو، لكن كما يظهر في أذهاننا - مشوهًا بأفكارنا ومشاعرنا. إن أعمال لينش تكرم اثنين من الرسامين على وجه الخصوص: فرانسيس بيكون وإدوارد هوبر. ويمكن العثور على أصداء لوحة "Seated Figure" لبيكون (1961) في إحدى حلقات مسلسل Twin Peaks.