بعد مرور أكثر من شهر على سقوط النظام في سوريا؛ تحدث وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بإسهاب حول ما جرى، وما بين سطور مطالعته المفصلة، يمكن قراءة وقائع لم تتضمنها الكلمات. لقد أسدل الستارة على مشهد مضى، لكنه لم يتنكر لدور قامت به موسكو، سهَّلت فيه ما جرى، أو لم تمنع حصوله على أقل تقدير. وأشار لافروف إلى إمكانية الاستثمار السياسي في المستقبل انطلاقاً من الوقائع التي حصلت، وإشارته الى العلاقات التاريخية بين روسيا ومكونات الشعب السوري، مركزياً من خلال الدولة، وأفقياً مع وجهاء هذه المكونات وممثليهم؛ يؤشِّر بوضوح الى رغبة في عدم التخلي عن الساحة السورية الهامة لسياسة بلاده الخارجية، مع إمكانية بلورتها بصيغة مختلفة عن الأُطر السابقة.انفصام عن الواقعقال لافروف أن الأسد لم يستجيب لنداءات روسيا المتكررة، والتي دعته فيها الى فتح حوار جدي مع المعارضة والقبول بإجراء تعديلات على الدستور، كما أنه تجاهل توصيات حوارات أستانا المتعددة، ولم يلتفت الى أهمية تطبيق ما تمَّ الاتفاق عليه في مؤتمر سوتشي وفي لقاءات القاهرة، وتجنَّب أن يقول بالحرف أن الأسد كان يعيش انفصاماً كاملاً عن الواقع، أو أنه كان جثة سياسية تنتظر الدفن، لكن ما بين سطور كلام لافروف يؤكد هذه الواقعة.وأشار وزير خارجية روسيا؛ الى أن موسكو نصحت الأسد باللقاء مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، لكنه لم يفعل، وطلبت منه تفعيل دور أجهزة الرقابة لضبط الفساد، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل، وقد حذرته القوات الروسية مرات عدة من مغبة تحويل المقرات الرسمية لمراكز تسويق الممنوعات والتجارة بالمخدرات، لكنه تجاهل هذه التحذيرات، أو أنه لم يكُن قادر على وقفها، من جراء التدخلات التي كانت تحصل بواسطة قوى إيرانية نافذة، أو من مجموعات مسلحة تدور في فلكهم. وقال لافروف أن روسيا لعبت دوراً كبيراً لعودة سوريا الى الجامعة العربية، لكن الإلتزامات التي تعهد بها الأسد لم ينفذ منها شيء. بينما الوضع المعيشي للشعب السوري كان يتراجع الى حدود لم تكُن مقبولة على الأطلاق.موسكو سهلت وصول المعارضةالقراءة الروسية في فنجان المتغيرات السورية، تؤكد أن موسكو سهَّلت وصول المعارضة الآمن إلى السلطة، ولم تفعل ما كان بقدرتها فعله لمنع الانتصار المُهيب، وقصف بعض الجسور إبان اندلاع المعارك، لم يكُن بهدف وقف زحف المعارضة الى دمشق، بقدر ما كانت لتسهيل اجلاء مجموعات عسكرية كانت منتشرة في مناطق الجنوب ودمشق وإجلائها لاحقاً من مطار حميميم.هل حصلت الخطوات الروسية بموجب تفاهمات دولية وإقليمية كفلت مقايضة على النفوذ بين الساحة السورية والساحة الأوكرانية؟ أو استناداً الى تطمين لروسيا من استمرار دورها مستقبلاً في سوريا، بضمانات محلية أو خارجية؟ وهي قد تستسيغ المُساكنة مع دور تركي وعربي فاعل، أكثر مما تطمئن لنفوذ إيراني غير واضح، ومُكبَّل بالمفاهيم العقائدية والميثولوجية القاسية على الفهم الروسي. أم أن ما حصل كان مجاراة لوقائع لا مفرّ من حصولها بعد أن أفلس نظام الأسد وفقد كل مقومات الحياة؟ ولروسيا أوراق أخرى يمكن أن تلعبها حفظاً لمصالحها ومكانتها في المنطقة، ومن هذه الأوراق نقل نفوذها العسكري إلى الشواطئ الجنوبية للمتوسط في ليبيا، بدل أن تكون على الشواطئ الشرقية المُتعِبة في الساحل السوري. لكن حتى الآن لا يوجد ما يؤكد هذا الخيار، وكلام لافروف لم يُشِر إليه، لا من قريب ولا من بعيد.التفاوض مع القيادة الجديدةمن الأوراق الروسية الهامة التي بدأ الحديث عنها؛ هي تكليف الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف بالتفاوض مع القيادة السورية الجديدة، لتوليف توافقات تتناسب مع مصالح الطرفان. والمصالح واسعة ومتعددة ومتشعبة. فالقيادة السورية الجديدة لا يمكن أن تخرج من الحاضنة التسليحية والتجهيزية والإستثمارية الروسية بالسهولة التي يتصورها البعض، وربما هي ليست في هذا الوارد، كما أن روسيا لا يمكنها استبدال الساحة السورية في أي مكان آخر، فلسوريا خصوصية جيوسياسية وجيو نفطية وجيو عسكرية متميزة. وقاديروف قادر على لعب دورٍ في هذا السياق، والأرضية السورية مُهيئة لقبول مثل هذه الوساطة، كما أن نُخب المكونات السورية المختلفة، لا سيما عند الموحدين الدروز والكُرد والعلويين والمسيحيين الأرثوذكس إضافة لنُخب واسعة من العرب السُنّة؛ لديهم هوىً روسي، وعاطفة قديمة اتجاه البلاد التي تعلَّم غالبيتهم في جامعاتها منذ أيام الاتحاد السوفياتي.حاول وزير خارجية أوكرانيا اندريه سيبيغا إبان زيارته لدمشق نهاية العام المُنصرم معرفة موقف أحمد الشرع، عندما اعتبر أن التغيير يجب أن يطال طرد القواعد الروسية من سوريا، ولكنه لم يحصل على أي جواب، والواقعة حصلت أيضاً عند لقاء الشرع بوزيرة خارجية المانيا أنالينا بيربوك بحضور وزير خارجية فرنسا، لكن الجواب الصامت لم يتغيَّر، والصمت في تلك اللحظة، قد يخفي ما لا يتوقعه المتحدثون.