على الرغم من مرور أشهر على قضية الباخرة المحملة بكمية 3500 طن من مادة "الغاز أويل"، والتي كان يفترض أن تفرغ حمولتها في منشآت النفط في طرابلس، تطبيقاً لقرار حكومي صادر منذ سنة 2004، لا تزال القضية تتفاعل في أروقة الصناعيين وجمعيتهم. فالقرار المذكور سمح لجمعية الصناعيين باستيراد شتى أنواع المحروقات المخصّصة للاستخدامات الصناعية، بشرط عدم بيعها لخارجها، ولكن ثمة عراقيل متعمّدة.
وفقاً لإجراءات مسبقة نص عليها القرار، حصلت الشركة المستوردة على كامل الأذونات المسبقة، في استيراد الكمية الأولى، والتي اعتبرتها جمعية الصناعيين عينة تجريبية، ستبني عليها لتحديد آلية الإستيراد المباشر مستقبلاً، وفقاً لإحتياجات الصناعيين. كان يفترض بالباخرة أن تفرغ حمولتها في الخزانات التابعة لمؤسسة كهرباء لبنان في المنشآت، على أن تقوم إدارتها وموظفوها بتفريغها وتخزينها، ثمّ إعادة تعبئتها في الصهاريج بحسب حاجة الصناعيين اليومية، تمهيدًا لتسليمها إلى المصانع.عراقيل متعمّدةإلا أنه بعد أن وافقت وزارة الطاقة على استيراد الكمية بناء لمواصفات المؤسسة الوطنية للمواصفات والمقاييس، وفحصت عينات منها بعد وصولها، ومن ثم طلبت إجراء فحوصات أخرى على عينات أخرى في المعهد العالي للبحوث الصناعية، دُفع بالباخرة مجدداً الى عرض البحر.
فالوزارة نفسها التي تؤكد مصادر صناعية أنها تحققت من نوعية الغاز أويل المستورد منعتها من تفريغ حمولتها عندما وصلت الى رصيف المنشآت. ومع أن نتائج فحوصات العينة المأخوذة من معهد البحوث لم تظهر مخالفتها للمواصفات، كما تؤكد، طلب من الباخرة مغادرة الرصيف. علماً أن استيراد المادة جاء وفقاً لما يؤكده مصدر متابع لمجريات عملية الاستيراد، بعد موافقة جمعية الصناعيين على عرض قدمته لها الشركة المستوردة، والتي تممت كافة الإجراءات الرسمية، وحصلت على الأذونات المطلوبة من وزارة الطاقة.
غير أن المفاجأة كانت فيما أثير من شبهات أولاً حول مصدر حمولة الباخرة التي ذكر أنها أتت من ليبيا بعدما تم تداول صور لرسوها في طرابلس، ليتبين لاحقاً وفقاً لما يؤكده المصدر، أن طرابلس الظاهرة في الصورة هي طرابلس اللبنانية وأن عملية رصدها تمت من طرابلس الى طرابلس بعدما كانت قد أفرغت حمولة سابقة لها في لبنان. وذكر أن الحمولة كانت متجهة الى سوريا، ولكنها لم تتمكن من بلوغها نتيجة لسقوط النظام فيها، ليتبين أن وصول الباخرة سبق سقوط النظام بأشهر طويلة، وهي كانت تنتظر في عرض البحر أمام الشواطئ اللبنانية منذ شهر أيار، بانتظار استكمال الفحوصات على عينات أخذت منها من قبل وزارة الطاقة.دعوى قضائية ضد الوزارةتتجه الشركة المستوردة وفقاً لما يذكره مصدر متابع لرفع دعوى قضائية على وزارة الطاقة لما ألحق بها أداؤها من خسائر. خصوصاً أن أي توضيح رسمي لم يثبت أو ينفي ما أثير إعلامياً من شبهات حول مصدر الحمولة ومطابقتها للمواصفات، وهذا ما أثار شبهات أخرى حول النيات الفعلية من وراء منع الشاحنة من تفريغ حمولتها، وهل كان المطلوب قطع الطريق على عملية استيراد المحروقات مباشرة بدلاً من مرورها عبر كارتيلات استيراد النفط المهيمنة على القطاع؟
نحو 860 صناعياً شرعياً في لبنان لديهم شهادة استثمار. عدد كبير من هؤلاء هم من كبار الصناعيين، وتعتمد صناعات بعضهم بنسبة 70 في المئة على الطاقة. وعليه، عمد بعضهم الى خلق خطوط مباشرة لاستيراد حاجات مؤسساتهم من المحروقات. وجاء ذلك في إطار المحاولات للتخفيض من الكلفة التشغيلية والتي تعتبر الأعلى ثمناً في لبنان، ما يعيق قدرة الإنتاج اللبناني التنافسية في الأسواق العالمية.
إلا أن الإستيراد المباشر بقي محصوراً بصناعات كبرى تمتلك خزانات كبيرة للمادة. وانطلاقاً من هنا اعتبر المصدر المتابع، أن تطبيق قرار الإستيراد المباشر عبر جمعية الصناعيين، سيشكل دعماً لصغار المصنّعين ومتوسطهم الذين لا يملكون أماكن تخزين في مؤسساتهم. علماً أن كلفة التخزين في منشآت طرابلس والخدمة المقدمة كانت ستصل الى مليون ونصف مليون دولار، يمكن أن تضاف الى كلفة المحروقات المستوردة مباشرة، ليبقى الوفر وفقاً لما أقر به الوزير نفسه بنسبة 20 في المئة. مع الإشارة الى أن أرباح الشركات من بيع المادة للصناعيين لا تختزل بكلفة الخدمة التي تؤمنها وكلفة الاستيراد، بل هي تستورد المحروقات بالكيلو طن، وتبيعه بالكيلو ليتر، وكل كيلو طن يوازي 1200 ليتر.محاربة استيراد الصناعيينيبدو أن عينة إطلاق عجلة الإستيراد المباشر للمحروقات للحاجات الصناعية، سقطت عند أول تجربة، من دون ان تتبين الأسباب الحقيقية. وهذا ما يمكن أن يضعها في خانة الضغوط التي مورست على مدى سنوات طويلة لمنع تطبيق القرار الحكومي الصادر منذ عام 2004. وذلك بعدما اجتمعت جهود جمعية الصناعيين مع الوزير السابق للصناعة فادي عبود في الأشهر الماضية لتفعيل الأمر.
ووفقاً لمصدر تابع صدور القرار منذ البداية، فإنه توج جهود بذلت مع بداية القرن الحالي واستغرقت نقاشات طويلة، وخصوصاً بسبب ما تشكله الصناعة من كوتا وازنة من حصص شركات استيراد النفط التي تتقاسم السوق. في سنة 2002 اقتنعت الحكومة بدعم الصناعة عبر تخفيض كلفتها المتأتية من الطاقة والمحروقات، إلا أن صدور القرار انتظر سنتين إضافيتين، قبل أن يسمح بداية باستيراد الفيول أويل، ومن ثم يسمح أيضاً باستيراد مشتقات البترول على أنواعها، بشرط عدم بيع المستورد لغير الصناعيين.
لم تسمح الظروف السياسية والاقتصادية لبنانياً وإقليمياً حينها، وفقاً للمصدر، باستكمال الحل، الى أن طلب الأمر مجدداً في العام 2021 باجتماع عقد في القصر الجمهوري على عهد الرئيس ميشال عون، من قبل وزير الصناعة عماد حب بالله بالاتفاق مع وزير الطاقة ريمون غجر. وكان حاضراً أيضاً مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الصناعية جورج نصراوي ومدير عام الوزارة داني جدعون.
استتبعت الخطوة بمحاولات مباشرة للاستيراد، ولكن مجدداً حصلت تدخلات مختلفة لإعاقته. تغيرت الحكومة، ودخلنا في مرحلة فراغ رئاسي، إلا ان الأمر بقي موضوع متابعة حتى سنة 2024.
انتهت النقاشات الطويلة التي خيضت في جمعية الصناعيين وشكلت أولوية بالنسبة لرئيسها السابق فادي عبود والحالي سليم الزعني، بإطلاق عملية الإستيراد الأولى عبر الجمعية، بارك لها وزيرا الطاقة والصناعة، واعتبرت بمثابة إنجاز يحقق لهما. إلا أن ذلك كان قبل ما تسبب به أداء وزارة الطاقة تحديداً من إرباك. ذلك لأن صمتها خلّف تساؤلات عديدة، عما إذا كانت الباخرة محظورة فعلاً، وإذا كانت كذلك كيف أخذت منها العينات لفحصها ولماذا، وإذا لم تكن كذلك ما صحة عدم مطابقة حمولتها للمواصفات. وهذا ما يضع الوزارة أمام شبهتين إما أنها تحاول ادخال باخرة من خارج المواصفات في أول تطبيق لقرار انتظره الصناعيون نحو عشرين عاماً، أو أنها خضعت لضغوطات لعدم تطبيق القرار.
على رغم تجنب جمعية الصناعيين المواجهة المباشرة مع وزارة الطاقة، إلا أن مصادرها تؤكد مضيها بالسعي لتطبيق القرار الذي يسمح لها بالإستيراد المباشر. ويشدّد مصدر معني أن همّ الجمعية يختصر بتحقيق مصلحة الصناعيين، مستسخفاً الكلام عن تلاعب يمكن أن يجري لبيع كميات المحروقات المستوردة الى الخارج. إلا أن المصدر تجنب الخوض في الآلية التي ستتبعها الجمعية في تطبيق القرار، مختزلاً الأمر بالقول "بس يجي الصبي منصلي عالنبي."