على عكس ما يدعي أو يتصرف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فقد أكد طوفان الأقصى وحرب غزة مرة أخرى على انتهاء عمره السياسي وانفصامه وعجزه عن التأثير على التطورات، وعلى الرغم من أهمية وجود السلطة نفسها، والقيادة الفلسطينية الموحدة لإنهاء الانقسام وإعادة إعمار غزة وتوحيدها مع الضفة الغربية، ضمن أفق سياسي ومسار جدي لا رجعة عنه نحو الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة والاستقلال، إلا أن عباس والقيادة الحالية الهرمة والمترهلة ليسوا سوى تعبير عن الأزمة أكثر مما هم جزء من الحل.فشل السلطةحتى قبل العشرية التي سبقت طوفان الأقصى والحرب، ومع انتهاء آخر محاولة جدية للمفاوضات وعملية التسوية - مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو - كما شهدناها خلال العقدين الماضيين، وفشل برنامج محمود عباس السياسي - التفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض - ومع توسيع إسرائيل سيطرتها وممارساتها وإطالة بل تأبيد الانقسام بين الضفة وغزة، وجعل السلطة بلا سلطة حسب إقرار كبير المفاوضين صائب عريقات – رحمه الله - وأركان القيادة الحالية، ومسؤولين فلسطينيين كثر، لم تشهد السلطة الفلسطينية بقيادة عباس سوى الهروب المنهجي من استخلاص العبر السياسية والشخصية، أي الاستقالة والتنحي عن القيادة بظل تحوّل السلطة فعلياً إلى كيان بلدي وإدارة لحكم ذاتي مضيق لا موسع، إضافة إلى العجز عن مواجهة السياسات والممارسات الإسرائيلية، وتحمّل مسؤوليتها والقيام بواجباتها المركزية في نقل الفلسطينيين من مرحلة التحرر الوطني إلى الاستقلال والسيادة وتقرير المصير.خلال العشرية نفسها بدت السلطة برئاسة محمود عباس بظل خضوعها العملي، رغم الرفض النظري، لاستراتيجية الواقع الراهن الإسرائيلية وإدارة وتقليص الصراع والسلام الاقتصادي – سلام السوبر ماركت حسب توصيف رئيس الوزراء السابق وربما القادم نفتالي بينيت – مستلبة ومتمسكة ببقائها بحد ذاته ولو كجسد بغض النظر عن روحها المرتهنة والعاجزة عن تحقيق الآمال الوطنية للشعب الفلسطيني، كما عن حمايته والدفاع عنه حتى مع اتساع دائرة الاستيطان والتهويد، كما عجزت عن مواجهة البعد الخارجي من السياسة والاستراتيجية الإسرائيلية المتمثل بشطب أو بالحد الأدنى تهميش القضية الفلسطينية وإزاحتها عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي، مع إيغالها في الفساد والاستبداد والفئوية ورفضها إجراء الانتخابات لضخ دماء جديدة في شرايين الجسم السياسي، وبالتبعية عجزها عن إنهاء الانقسام وإعادة توحيد الضفة وغزة، وإثبات جدارتها في تمثيل الشعب الفلسطيني وقيادته نحو تحقيق آماله الوطنية المشروعة.تعبير عن الانقساممن هنا ورغم كل الملاحظات على الطوفان ومآلاته إلا أنه مثّل في أحد جوانبه الرئيسية تعبيراً يائساً عن الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي وغياب الجسم القيادي والاستراتيجية التوافقية، وانسداد الآفاق أمام حل عادل وشامل ودائم للقضية الفلسطينية، حتى لو كان الثمن كبير جداً بل ومأساوياً مع الخسائر أو النتائج الرسمية التي أعلنها المكتب الإعلامي الحكومي بغزة منذ أيام، ثم عدلتها وبشكل صادم مجلة لانسيت الطبية المهنية، ذائعة الصيت، وتحدثت عن مئات آلاف الشهداء والمصابين وملايين النازحين، وخسائر بعشرات مليارات الدولارات مع أرقام مماثلة لإعادة الاعمار وعلى مدى زمني طويل.ومع إطلاق إسرائيل حرب الإبادة بمراحلها المختلفة التي امتدت لأكثر من سنة - 15 شهر - بدت السلطة برئاسة محمود عباس عاجزة عن وقفها أو التأثير عليها، أو حتى على الحرب الإسرائيلية الموازية بعقر دار السلطة بالضفة الغربية، خاصة مع تهميشها من قبل أطراف إقليمية عربية ودولية عديدة واعتبارها غير ذات صلة.انضمام متأخرهذا رغم الانضمام المتأخر لكن المطلوب والضروري - إلى جنوب إفريقيا في قضيتها بمحكمة العدل الدولية ضد إسرائيل. ورغم إيجابية توقيعها على ميثاق روما المؤسس 2014 وانضمامها إلى المحكمة الجنائية، والطلب منها التحقيق في الجرائم والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة – حزيران يونيو 1967 - والشكوى التي قدمتها وقبلتها المحكمة، مثّلت أساس للتحقيق في جرائم حرب غزة وانفتاح المحكمة على التحقيق في الممارسات والجرائم بالضفة الغربية بما فيها القدس، وإصدارها مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه المقال يوآف غالانت، والتي قد تتوسع لتطال مسؤولين آخرين عن جرائم الاحتلال والاستيطان المناقضة للقانون الدولي بالضفة.للتذكير، فقد كان الانضمام للجنائية كما الشكوى نفسها بأحد أهم جوانبها تعبيراً عن فشل وانهيار عملية التسوية، وانهيار جهود إدارة باراك أوباما – جون كيرى ووصولها إلى طريق مسدود، لكن مع عدم امتلاك الشجاعة بالمضي قدماً حتى النهاية في سيرورة الاستنتاجات والخلاصات الوطنية، تحديداً فيما يتعلق بالجانب المؤسساتي والمنظوماتي لجهة إعادة بناء شاملة لمنظمة التحرير والسلطة على أساس ديموقراطي، بما في ذلك إجراء الانتخابات كخطوة ضرورية ولا غنى عنها لإنهاء الانقسام وإعادة توحيد الصفة الغربية وغزة. حيث تم ابتداع معضلة القدس للتهرّب من الانتخابات، بحجة رفض الاحتلال بدلاً من رفض إعطائه الفيتو على مصالحنا الوطنية، وفرض وجعل يوم التصويت وطنياً بامتياز لتكريس هوية المدينة الفلسطينية العربية الإسلامية والمسيحية.إذن بدت السلطة بقيادة محمود عباس عاجزة عن تقديم المساعدات الإنسانية للغزيين رغم المجاعة والإبادة والنكبة التي حلت بهم، كما بدت مستبعدة وغير ذات صلة في جهود ومساعي إنهاء الحرب، كما رأينا في الإعلان عن اتفاق وقف النار الذى تم إعلانه مساء أمس الأربعاء في الدوحة.اليوم التالي للحربإلى ذلك تهرب محمود عباس ولم يبادر إلى قيادة جهود التوافق الوطني على معالم اليوم التالي للحرب بغزة، مع إصرار على العناد والمكابرة والتصرف وكأن شيئاً لم يكن رغم النكبة والمآسي بغزة المدمرة بشراً وحجراً.بالسياق، لا بد من التذكير بتضييع محمود عباس فرصة تاريخية بداية الحرب، وتجاهل نصائح عربية وإقليمية ودولية لتشكيل حكومة توافق وطني بالمعني الدقيق والواسع للكلمة وشق طريق الخروج من السلطة، لكن مع دخول التاريخ من الباب الواسع، وللأسف شهدنا تشبث أبو مازن بالسلطة وعناد ومكابرة وإصرار على الخروج من التاريخ من الباب الضيق، أمام الواقع المأساوي الفلسطيني في الداخل والخارج والضفة والشتات على حد سواء، والذي تتحمل القيادة المسؤولية الأولى عنه كونها ببساطة صاحبة القرار والسلطة.وببساطة كنا ولا نزال بحاجة إلى قيادة وطنية بصفات مختلفة لا تتوافر بالتأكيد بالقيادة الحالية الهرمة والمترهلة والفاسدة، كون فاقد الشيء لا يعطيه وهى باتت تعبيراً عن الأزمة متعددة المستويات، لا جزءاً من الحل، وفي أفضل الأحوال عليها تسليم السلطة فعلياً ولو ضمن مرحلة انتقالية إلى أخرى جديرة لقيادة إعادة الإعمار والتعافي بغزة، وتوحيد المؤسسات وإجراء الانتخابات ضمن مدى زمني معقول – عامين تقريباً - وبمعنى أخر، فإن زمن قيادة محمود عباس الافتراضي انتهى ورحيلها رسمياً كان ولا يزال مسألة وقت فقط مع ضرورة فتح الباب أمام قيادة شابة جديدة - منتخبة - مصداقة وجديرة تماماً، كما فعل القائد المؤسس أحمد الشقيري بعد نكبة حزيران يونيو 1967، وكما يجب أن يفعل محمود عباس بعد نكبة 2024.