كما كلّ المناطق اللبنانية، تُثقِل فاتورة المياه كاهل أبناء بيروت ومناطق جبل لبنان، إذ يعتمدون بشكل أساسي على شراء المياه من مصادر خاصة. أمّا "الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه" التي وضعتها وزارة الطاقة منذ العام 2012، tقد أنجزت سدوداً مثقوبة تهدر المياه بعد هدر الأموال. ورغم النتائج الملاحَظة بالعين المجرَّدة والأرقام، يبقى الإصرار على السدود قائماً، وتحديداً محاولة إحياء مشروع سد بسري المفترض أنّه سيؤمِّن المياه لبيروت وجبل لبنان. أما وسيلة الإنعاش، فهي مشاريع بقروض مموَّلة من البنك الدولي، لإصلاح خطوط المياه لبيروت وجبل لبنان. فكيف يجري الربط بين المشروعين؟.
التذكير بأزمة المياهلا تنحصر أزمة المياه ببيروت وجبل لبنان، فكل قرية ومدينة على هذه البقعة تعاني أزمة مياه تتمثَّل بعدم وصول المياه إلى المنازل، كمّاً ونوعاً. في حين تعوِّض مصادر المياه الخاصة هذا النقص، ممّا يرفع فاتورة المياه على المواطنين. ويعزِّز غياب الكهرباء أزمة المياه إذ تقلِّص ساعات التقنين فرصة ضخّ المياه من الآبار التابعة لمصالح المياه.ومع أنَّ الأزمة عامّة، تحظى المناطق في بيروت وجبل لبنان بأهمية خاصة لدى البنك الدولي الذي يسرِّع تمويل مشاريع "تحسين خدمات إمدادات المياه" لتلك المناطق. وهو الذي سَهَّل في وقت سابق تمويل مشروع سَد بسري الذي يهدف إلى إيصال المياه لبيروت وجبل لبنان، بحسب وزارة الطاقة ومجلس الإنماء والإعمار ومَن يؤيّد المشروع.
أخيراً، وافق مجلس المديرين التنفيذيين للبنك الدولي على تمويل بقيمة 257.8 مليون دولار لتحسين خدمات إمدادات المياه في بيروت الكبرى وجبل لبنان، أي تحسين البنية التحتية وجودة المياه، ممّت يحدّ "من الاعتماد على مصادر المياه الخاصة باهظة الثمن". (راجع المدن).
التركيز على تحسين البنية التحتية لقطاع المياه أمر مطلوب وضروري، لكن يجب أن يستند إلى خطة متكاملة تستهدف كامل القطاع في كل المناطق، وهذه مسألة لا تزال بعيدة. وفي المقابل، تُستَعمَل قضية المياه وما يدفعه المواطنون من فواتير لمصادر مياه خاصة، شمّاعة لإحياء مشاريع السدود، وعلى رأسها سد بسري الذي أسقطته تحرّكات الاختصاصيين الذين استندوا إلى تقارير ودراسات علمية تبيِّن عقم المشروع بسبب طبيعة الأرض في تلك المنطقة، فضلاً عن عدم معالجة تلوّث المياه التي ستأتي إلى بيروت وجبل لبنان بعد إقامة السد.
استمرار المشروع بالأروقةربط نوايا تحسين خدمة المياه بمشروع سد بسري ليس اعتباطياً، كما وليس رفض مشروع السد يعني رفض تحسين خدمة المياه. أمّا في ما يخصّ السدّ، فيؤكّد النائب بلال عبدالله في حديث لـ"المدن" أن الربط بين المشروعين يعود إلى عدم نسيان مشروع السدّ "فالمعلومات مؤكَّدة حول النوايا الموجودة في أروقة مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الطاقة، والتي تريد إحياء المشروع". وإذ يشبِّه عبدالله مشروع السد بأنّه "مجزرة"، يجزم بأنه "لن يمر". وفي المقلب الآخر، يرحِّب عبدالله بقرض البنك الدولي إذا كان مخصصاً "للتفتيش عن حلول عملية ومنطقية لمشكلة المياه في بيروت، بعيداً من رغبات وأطماع مقاولي مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الطاقة".
"هناك مخاوف جدية"، يقول عبدالله، ولذلك، فإن "رفض مشروع سدّ بسري سيبقى قائماً". والرفض بالنسبة لعبدالله يقابله تأكيد على أن الحلول العلمية الصحيحة لمشكلة المياه، تتمثّل بـ"حفر الآبار الارتوازية حول بيروت".
الاستراتيجية نفسهاالعودة إلى مشروع سدّ بسري يندرج ضمن الاستراتيجية التي اعتمدتها وزارة الطاقة، وهي "استراتيجية لا أساس علمياً لها"، وفق ما يقوله الخبير الهيدروجيولوجي سمير زعاطيطي لـ"المدن". فهذه الاستراتيجية برأيه "أنتجت سدوداً فاشلة، وتصرّ على تنفيذ سدّ بسري الفاشل أيضاً، بدل الاعتماد على استغلال المياه الجوفية من خلال حفر الآبار". وبالنسبة لبيروت وجبل لبنان، يشير زعاطيطي إلى أن "حفر بعض الآبار في منطقة وادي شحرور على سبيل المثال، كافٍ لتأمين المياه بدلاً من السدود". ويلفت زعاطيط النظر إلى أنه "حتى من ناحية الكلفة المادية، فإن اللجوء إلى التخزين السطحي للمياه أكثر كلفة من حفر الآبار وسحب المياه الجوفية. لكن اعتماد الخيار الأوّل يأتي نتيجة مطبخ الفساد الرسمي للسلطة الحاكمة". كما أن الاعتماد على المياه الجوفية هو "توصية علمية أثبتتها أشغال البعثة الجيولوجية الفرنسية وتقرير الأمم المتحدة للتنمية UNDP الصادر في نيويورك عام 1970".
أسباب غير علميةيعتبر البنك الدولي أنه بوقف تمويل المشروع في 5 أيلول 2020 نتيجة الضغط الشعبي "لن يتمكن أكثر من 1.6 مليون شخص يعيشون في منطقة بيروت الكبرى وجبل لبنان، من بينهم 460 ألف شخص يعيشون على أقل من 4 دولارات للفرد في اليوم، من الحصول على إمدادات مياه نظيفة بصفة موثوقة". مع أنّ تنفيذ السدّ لا يعني إزالة التلوّث من المياه التي ستُخّزَّن فيه قبل تحويلها إلى بيروت وجبل لبنان. ومصدر تلك المياه بشكل أساسي هو بحيرة القرعون، وبعض مصادر المياه السطحية التي تتسرّب إليها مياه الصرف الصحي.
وعوضَ البحث في مصادر المياه وتلويثها وطبيعة الأرض التي سيقام عليها السد، واتخاذها أسباباً علمية لوقف المشروع، رأى البنك أن وقف تمويل المشروع أتى بسبب "عدم تلقّي أدلّة مرضية حول عدم إنجاز الحكومة اللبنانية وضع خطة التعويض الإيكولوجي وفقاً للإجراءات القانونية الواجبة وبالتشاور مع أصحاب المصلحة الرئيسيين في موعد أقصاه 4 أيلول 2020. وأن تكون الحكومة قد انتهت من وضع ترتيبات التشغيل والصيانة في موعد أقصاه 24 آب 2020، تواجد المقاول في موقع العمل في موعد أقصاه 4 أيلول 2020".
وتُظهر تبريرات البنك انه لم يأخذ بالاعتبار المعطيات العلمية التي تقول بأن "الفرنسيين تحدّثوا في تقاريرهم عن "هبوط" الأرض في وادي بسري"، وفق زعاطيطي الذي يؤكّد أن "الحديث عن هبوط في الوادي يعني وجود فراغات تحت الصخر الجوراسي وهو صخر كلسي قاسٍ لكنه يسمح بمرور المياه". ويشير إلى أنه "تمّ حفر أكثر من بئر في مرج بسري، وخلال الحفر تم فتح أكثر من صخرة وسُمِعَ صوت المياه على عمق 100 متر، بعد دخول الهواء عبر الفتحة، وهذا يدلّ على أن طبيعة الأرض هناك لا تسمح بتخزين المياه السطحية".