انطلقت معركة صورة "النصر" بين إسرائيل وحركة "حماس" بمجرد إعلان الوسطاء، تحديداً دولة قطر، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، يبدأ تنفيذه الأحد المقبل.
وتجلت المعركة في مسارعة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، إلى التعليق على صورة لمقاتلين من كتائب "القسام"، تظهرهم مبتهجين فرحاً بإعلان الاتفاق، وهي صورة أرادتها "حماس" لتقول أن بقاءها "انتصار" بحد ذاته. ووجد أدرعي في الدمار والنزوح والدماء التي خلفتها آلة الحرب الإسرائيلية في غزة، صورة ليظهرها بالمقابل "نصراً" إسرائيلياً، حتى لو كان ناقصاً!والواقع أن إسرائيل تهتم تقليدياً بصورة لا تقل أهمية عن بروباغندا "المنتصر"، فبحثت في ثنايا صفقة غزة عن صورة أخرى، وهي صورة "الضحية"، حيث استنفرت أجهزتها العسكرية والإعلامية والصحية، لرسم مشهد تريد إخراجه للإعلام الدولي بشكل درامي، باعتباره وسيلة مهمة لإظهار إسرائيل "الضحية"، من خلال تصوير المحتجزين الإسرائيليين عند لحظة الإفراج عنهم، كرهائن من العالم الديموقراطي الحر، وأن تل أبيب تقاتل باسم هذا العالم، وقامت بتحريرهم من "منظمة إرهابية داعشية"، على حد تعبيرها.لكنّ صحيفة "يديعوت أحرونوت"، رغم قولها أن أيام الإفراج عن المحتجزين من غزة تبعث على "السرور والأمل"، إلا أنها أكدت أن المشاهد المنتظرة للمحتجزين لحظة إطلاق سراحهم واستلامهم، ستكون "صعبة"، داعية جميع الإسرائيليين إلى "الجرأة والشجاعة" لرؤية مشاهد "مؤلمة" للمحتجزين، ببث حي ومباشر، بدعوى أنها مشاهد ستكشف "الكارثة" بعيداً من الخطابات والشعارات الرنانة.ورأت الصحيفة العبرية أن هول الصورة التي سيخرج بها المحتجزون ستثير أسئلة كبيرة عن الحال الذي سيعودون به إلى عائلاتهم، ومصير من بقي منهم في القطاع."نختار بين السيء والأسوأ"
وبموازاة معركة الصورة، لعب الإعلام العبري بمعظمه دور المبرر للصفقة، كما استعرض نقاشاً جدلياً بين أقطاب اليمين المتطرف بشأن فائدة الصفقة وخطورتها على إسرائيل. ولجأ وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، إلى أسلوب المقارنة، ليقنع الوزراء الغاضبين من الصفقة، أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، إذ قال ساعر "إننا نختار بين السيء والأسوا".من جهته، بدا مذيع النشرة الصباحية للإذاعة العبرية الرسمية، متحمساً للصفقة، عبر وصفه إياها بـ"إنجاز عظيم" جاء بعد 15 شهراً من الحرب والمفاوضات الموازية. وأجرى مذيع "مكان" مقابلة مع المحلل السياسي الإسرائيلي يوني بن مناحيم، ليسأله عما إذا كان "سعيدًا" بالصفقة، ليجيبه أنه بالرغم من انتقادها من اليمين، إلا أن المهم "إنقاذ حياة المخطوفين.. وهذا أهم شيء بالنسبة لإسرائيل والدين اليهودي".لكن بن مناحيم شكك في قوة الاتفاق، بذريعة إنجازه بسرعة، وتحت ضغط الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، مدعياً أن 90% من الإنجاز جاء "بفضل ترامب". وهنا، استبق بن مناحيم تنفيذ الاتفاق، بوضع افتراضات إسرائيلية مهددة لسيرورة الصفقة، قائلاً أنه بسبب السرعة يمكن أن يكون هنالك "خداع من حماس". وبمفهوم بن مناحيم، فإن قلقه من "الخداع" المزعوم نابع من عدم وجود جهاز مراقبة لتنفيذ الاتفاق، واصفاً الأمر بـ"مشكلة أساسية" ستفتح الباب أمام تفسيرات مختلفة من الطرفين لنصوص الاتفاق، ما سيقود إلى "تعطيله" في أية لحظة، وفق قوله.أما الباحث الإسرائيلي في معهد "ترومان" بالجامعة العبرية روني شاكيد، اصطلح على تسمية اتفاق غزة بـ"صفقة ترامب"، معتبراً أنها ليست بين "حماس" وإسرائيل، وإنما صفقة تهدف إلى جعل ترامب "سعيداً" قبل دخوله البيت الأبيض الاثنين القادم. وأشار شاكيد الذي خدم سابقاً في الأمن الإسرائيلي، إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يحصل لأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تغير، وإنما لأن التغيير جاء من واشنطن، تحديداً من ترامب الذي هدد الشرق الأوسط بـ"جهنم"، وهي "كلمة السر" لعقد الصفقة، بمنظور شاكيد الذي رأى أن ترامب لم يقصد بتهديده حركة "حماس" ودولاً في الشرق الأوسط فقط، بما في ذلك إسرائيل فقط.كما تطرق المحلل الإسرائيلي إلى احتمالات انهيار الصفقة في مرحلة لاحقة، بقوله إن الصفقة أُبرمت من دون الاتفاق على كامل تفاصيل المرحلة الثانية والثالثة، لأنها مؤجلة إلى مفاوضات ستنطلق لاحقاً خلال الهدنة.الاختبار الحقيقي.. بالتنفيذ
في السياق، دعا كتاب إسرائيليون إلى قراءة المشهد بشمولية، مضيفين أنه ما كان "علينا أن ندفع الثمن بهذا الشكل، ثم نذهب إلى اتفاق بالنصوص نفسها طرحت قبل أشهر"، موجهين انتقادهم إلى نتنياهو وغاياته السياسية التي تسببت بكل هذا التأخير والأثمان الباهظة.ورغم حديث الإعلام العبري عن ترامب كعامل رئيسي في بلورة الصفقة، إلا أنه لا يُمكن إغماض العين عن كون الاتفاق حاجة عملياتية عسكرية لإسرائيل، خصوصاً بعد تحول الحرب إلى استنزاف لقواتها، إضافة إلى تناقص معلوماتها الاستخباراتية عمن تبقى من قيادة القسام والمحتجزين. ورأت قراءات عسكرية أن الجيش الإسرائيلي سيراقب كل حركة تحت الأرض وفوق الأرض في عملية نقل وتسليم المحتجزين، بوصفها فرصة أمنية لتحديث المعلومات الإستخباراتية، وتوظيفها لملاحقة المتبقين من قيادة حماس والقسام إذا استُؤنفت الحرب.في العموم، يبدو الأسبوعان الأولان للصفقة اختباراً حقيقياً لسيرورة اتفاق وقف إطلاق النار، كما أن التنفيذ سيظهر كيفية تفسيره من إسرائيل، وما إذا كانت تفهمه على أساس تحول الحرب إلى شكل آخر للقتال!وهناك مسألة أخرى تجدر الإشارة إليها لفهم عقلية إسرائيل التي تطرح دائماً عدوانها بحق الفلسطينيين، على أنه شأن إسرائيلي داخلي، لا يمكن لأي دولة في العالم، وحتى حليفتها الولايات المتحدة، أن تحسم موقفها بخصوصه. وهذا يتصل بالضفة الغربية وغزة اللتين تعدهما الدولة العبرية جزءاً من خريطتها المعلنة، عدا أنها باتت تتعامل مع غزة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بمنهجية أمنية وجودية مختلفة عما كان عليه الحال قبل هذا التاريخ، وهو ما يثير تساؤلات بشأن فهم إسرائيل لصفقة غزة.