لم يكن سرًا أنّ بدء التعاطي الجدّي بالملف المالي كان يفترض أن يشكّل محور عمل الحكومة المقبلة، إلى جانب الملف الأمني والدفاعي المرتبط بترتيبات وقف إطلاق النار. فرغم عمر هذه الحكومة المحدود بموعد الانتخابات النيابيّة المقبلة، بات من المؤكّد أن استحقاقات كبرى ستفرض العمل على مقاربات أكثر جديّة للأزمة الماليّة المستمرّة منذ العام 2020، بعد أن تم تعطيل كل مسارات الحلّ منذ ذلك الوقت. ملف إعادة الإعمار نفسه، صار مرتبطًا بخطّة شاملة سيُتفق عليها مع البنك الدولي، قبل المضي لمؤتمر المانحين. وهذه الخطّة، لن تكون مفصولة عن الشروط الإصلاحيّة التي اشترطها صندوق النقد الدولي عام 2020، ثم عام 2022، في إطار الاتفاق على مستوى الموظفين مع لبنان.
عمليّة انتخاب رئيس الجمهوريّة، ثم تسمية الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة، كانت أساسًا صفّارة الانطلاق لاستعادة موقع وعمل المؤسّسات الدستوريّة، وثم المضي بكل الملفّات التي عطّلها الفراغ الرئاسي ووجود حكومة محدودة الصلاحيّات. ولهذا السبب، لم يكن غريبًا أن تتفاعل أسواق المال وأسعار سندات الدين السيادي اللبناني، بشكل إيجابي مع هذه التطوّرات. وعلى هذا الأساس كان من الطبيعي أن تؤثّر هويّة الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة، على احتمالات وسيناريوهات مسار التعافي المالي، طالما أنّ هذا المسار يقع في صلب مهام الحكومة المقبلة. وهويّة رئيس الحكومة، ستؤثّر حتمًا في نوعيّة المقاربات التي ستذهب إليها الحكومة المقبلة.ميقاتي وأفق التعافي الماليمنذ البداية، كانت الشكوك بتناسب مهام الحكومة المقبلة مع شخص يحمل مصالح وتوجّهات وسمعة الرئيس نجيب ميقاتي. فنحن نتحدّث هنا عن حكومة يفترض أن تمضي قدمًا في عمليّات التدقيق والتحقيق في دفاتر مصرف لبنان، ليُبنى على هذا الأساس إطارًا للمعالجات العادلة، وفق معيار المسؤوليّة عن ارتكابات المراحل السابقة. ونحن نتحدّث -في المقابل، في حالة ميقاتي- عن رئيس حكومة ربطته صلات ومصالح بالنظام المصرفي، بل وامتلك حصصًا في مؤسّساته، فيما تُحقق المحاكم الأوروبيّة بالعمليّات المتبادلة التي تربطه بالحاكم السابق للمصرف المركزي رياض سلامة. ميقاتي نفسه، كان أبرز المدافعين عن بقاء سلامة في منصبه، حتّى اللحظة الأخيرة من ولايته. بل وثمّة من ينقل تلويح ميقاتي بالاستقالة، حين طلب القاضي جان طنّوس مداهمة عدد من المصارف لانتزاع داتا متّصلة بالشبهات التي تدور حول سلامة.
كان من الصعب أن تمضي قاطرة "الإصلاحات" مع ميقاتي. وهذا ما أثبتته أساسًا تجربة السنوات الماضية: لم تمض الحكومة بمسار تدقيق ميزانيّات أكبر 14 مصرفًا، رغم إلتزامها بهذا التعهّد مع صندوق النقد الدولي، منذ نيسان 2022. ولم يتم تمرير مرسوم مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بل تم طرحه مرارًا وتكرارًا على طاولة مجلس الوزراء، ربما من باب رفع العتب، قبل سحبه من التداول على وقع امتعاض وتعليمات جمعيّة المصارف نفسها. وإذا كان حسّان دياب قد فشل في مواءمة مشروعه المالي مع مصالح النخب المصرفيّة، النافذة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، فميقاتي لم يحمل هذه المشروع بجديّة منذ البداية.
كان ميقاتي، في الاقتصاد، هنا وهناك. يُغازل المجتمع الدولي بتعيين نائبًا له في رئاسة الحكومة، من نوعيّة سعادة الشامي، المؤمن فعلًا بالبرنامج المالي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي. لكنّ جذوره وتسوياته –وربما مصالحه- ظلّت مرتبطة بشكلٍ وثيق بالنخب الماليّة المحليّة، ولم يخرج يومًا عن الحدود التي رسمتها للمعالجات الرسميّة. ولم يكن متوقعًا أن يختلف شيئًا في أدائه خلال المرحلة المقبلة. والفشل في المضي بمشروع التعافي المالي، خلال المرحلة المقبلة، لن يكون تفصيلًا. فهذا المشروع، وشروطه، بات مرتبطًا كما أشرنا بمسار إعادة الإعمار، والمساعدات المنتظرة من مؤتمر المانحين.سلام والمشهد الجديدفي حالة سلام، ثمّة شخص لا يملك –من الناحية الماليّة أو ناحية المصالح- هذا النوع من الارتباطات الإشكاليّة. وهذه المسألة ستترك أثرها على أدائه أوّلًا، وعلى ثقة الخارج بأي مشروع مقبل للتصحيح المالي. وليس تفصيلًا أن يكون رئيس الحكومة العتيد، في حال نجاحه بتشكيل الحكومة، خبيرًا قانونيًا من الطراز الرفيع، في مرحلة تقتضي صياغة معالجات ماليّة على قواعد المساءلة والمحاسبة أولًا. وأداء الحكومة سيرتبط طبعًا بتركيبتها، ونوعيّة الوزراء فيها، لكنّ من الطبيعي أن تلعب رئاسة الحكومة دورًا حاسمًا في كيفيّة التعامل مع المعالجات المعلّقة منذ العام 2020.
من الأكيد أيضًا أنّ المناخات السياسيّة ستلعب دورًا كبيرًا في تسهيل أو تعطيل عمل الحكومة. وهذا ما سيرتبط بدوره بالمباحثات القائمة اليوم، بين الثنائي الشيعي –أبرز المعترضين على تكليف سلام- ورئيس الحكومة المكلّف، حول احتمالات مشاركة الثنائي في الحكومة. ومن الناحية العمليّة، ثمّة خشية لدى البعض من إمكان دخول الحكومة المقبلة في مرحلة من التوتّرات السياسيّة الحادّة، في حال انتقال الثنائي إلى صفوف المعارضة، وهو ما قد يؤدّي إلى تعطيل العمل بمعظم الملفّات الماليّة المهمّة.
لكن في الوقت نفسه، تشير التحليلات الأكثر واقعيّة إلى أنّ الثنائي نفسه لن يملك المصلحة في الدخول بهذا النوع من المسارات التعطيليّة، طالما أنّ ملفّات إعادة الإعمار باتت متّصلة بالإصلاحات الاقتصاديّة أولًا، وبخطّة إعادة الإعمار التي يجب أن تضعها الحكومة بالتعاون مع البنك الدولي ثانيًا. بهذا المعنى، من المؤكّد أن الثنائي الشيعي لن يستسهل فكرة فرملة تشكيل الحكومة الجديدة والبقاء في ظل حكومة تصريف أعمال، أو التشويش الدائم على عمل الحكومة الجديدة بعد تشكيلها.
في النتيجة، توحي جميع المؤشّرات بأنّ تطوّرات الأيّام المقبلة يمكن أن تدفع مسارات الحل الاقتصادي باتجاه انطلاقة أكثر فعاليّة، في حال تمكّن الرئيس المكلّف من تشكيل حكومة منسجمة، ومتآلفة حول مشروع اقتصادي واضح. وهذه الانطلاقة كانت لتكون متعذّرة، لو تم الإبقاء على نفس النهج السابق في إدارة العمل الحكومي. أمّا النقطة الأهم هنا، فهو أنّ الحكومة الحاليّة ستكون مسؤولة عن كتلة ضخمة من التعيينات في مناصب الفئتين الأولى والثانية، وهو ما كان يفرض أساسًا عقليّة مختلفة في إنجاز هذه التعيينات، الذي سيترك أثره على فعاليّة عمل القطاع العام لفترة طويلة من الزمن.