كانون الأول 2014، يضطر النظام السوري السابق للسماح لمنظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" بتوزيع بعض المؤن على المحاصرين في مخيم اليرموك بعد حصار طويل، وموت عديدين بسبب الجوع. يحكي سمير، الشاب المرافق لقافلة الإغاثة لـ"المدن" عن تلك اللحظات. جاء الناس بالآلاف، ثيابهم الرثة محا لونَها دخانُ الخشب المحترق في بيوتهم من أجل التدفئة. شعورهم طويلة لم يطلها مقص منذ مدة طويلة.أخبره مرافقه، أحد سكان المخيم السابقين، أن ذاك الكهل المنحني الظهر، والذي يرتدي ثياباً مترهلة هو الكاتب الأشهر في المخيم. وتلك الفتاة التي تكاد تلتصق وجنتاها من شدة الهزال، كانت الأجمل. عناصر من فصيل فلسطيني تنتظر عند شارع راما، حيث توزيع بعض المؤن، تحتفظ بجزء كبير من الحمولة. أحد العناصر بدأ يضرب المحتشدين بالعصا، وهم لم يحاولوا صد الضربات، فقواهم خائرة. هذا العنصر، هو أبو حيدر، فلسطيني تماهى مع السلطة تماماً.صراع وثأرتلك كانت لحظة تأسيسية تفسّر ما يحدث اليوم، من رفض العديد من الفلسطينيين لأي وجود لعناصر ساهمت في الحصار، وبعضهم يذهب أبعد من ذلك برفض وجود تلك الفصائل ويعتبر أن هذه العناصر كانت تخضع لقرار سياسي وأمني أصدرته الفصائل المرتبطة بالنظام السوري السابق. وهذا ما أشعل أزمة سياسية بين فصائل فلسطينية في سوريا وناشطين فلسطينيين هناك.فبعد ثلاثة أيام من سقوط النظام السوري، اجتمع ممثلون عن 14 فصيلاً فلسطينياً في السفارة الفلسطينية وأعلنوا "تشكيل هيئة العمل الوطني الفلسطيني المشترك بمشاركة كل الفصائل وجيش التحرير الفلسطيني كمرجعية وطنية فلسطينية موحدة".وكان الردّ من 352 شخصية فلسطينية سورية، بعضهم معتقلون سابقون، إضافة إلى 16 مؤسسة، من خلال بيان مطوّل أعلنوا فيه رفضهم لما جاء في لقاء السفارة الفلسطينية، ودعوا هذه الفصائل للاعتذار العلني عن مواقفها السابقة والتبرؤ "من العار الذي جلبوه بمواقفهم وسلوكياتهم المستنكَرة، إذا كانوا حريصين- فعلاً- على دماء آلاف الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن قضيتنا الوطنية العادلة". تبع ذلك إعلان السفارة الفلسطينية في سوريا تراجعها، واتخاذ قرار بإلغاء لجنة المتابعة العليا.الصحافي الفلسطيني محمود زغموط، وهو أحد الموقّعين على البيان، قال لـ"المدن" إنه "يجب على السفارة وتلك الفصائل التي انخرطت في قمع الشعب السوري، وحصار مخيم اليرموك، وتسليم أبناء المخيمات، وارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين الاعتذار".وشدد على أن فلسطينيي سوريا "يرون أن الفصائل ما زالت تعيش في عالم موازٍ، مفصولة عن الواقع، وكذلك السفارة بعيدة عن الواقع. وبعد سقوط نظام الأسد لا يجب إنتاج نفس المرجعية السياسية التي كانت شريكة مع نظام الأسد، أو متواطئة".ورفض زغموط المنطق القائل بضرورة التمييز بين العناصر التي ارتكبت الجرائم والفصائل التي تنتمي إليها لأنه حسب رأيه "قرار التدخل إلى جانب النظام ضد الشعب السوري، كان قراراً سياسيا وأمنياً، ومن أعلى هرم داخل الفصيل. فلا يجوز لهذه البنى السياسية المرتبطة بالنظام السوري السابق أن تعيد إنتاج نفسها، ولا بد من حلّها، ولا إمكانية للتصالح معها. فالجرائم التي ارتكبوها بحق الفلسطينيين كبيرة، فليس هناك عائلة فلسطينية إلا وفيها شهيد أو مفقود أو معتقل، أو ضحية تعذيب، هناك ثأر كبير بين هذه الفصائل والشعب الفلسطيني".ويعدد زغموط أبرز الجرائم التي ارتكبها هؤلاء: "توريط بعض الفلسطينيين في جرائم النظام السوري، نشر الحواجز حول المخيمات، تجنيد من هم في قاع المجتمع من مدمنين وغيرهم لارتكاب جرائم بحق الشعب السوري، المشاركة بحصار مخيم اليرموك، تسليم عشرات الفلسطينيين إلى فرع فلسطين"ويُقدَّر عدد الفلسطينيين الذين قتلوا تحت التعذيب في السجون السورية منذ عام 2011 بما يزيد عن 4000 فلسطيني. كان منهم جمال أبو شنب، الذين خُطف في منطقة عش الورور عام 2015، دون أن يظهر له أي أثر بعد ذلك. تقول والدته في حديث لـ "المدن"، إن ابنها الذي كان يبلغ من العمر 17 عاماً، لم يكن ينتمي لأي فصيل فلسطيني. وحاولت تتبّع أثره دون جدوى. وقدّمت لأحد المسؤولين الفلسطينيين في سوريا مبلغ 10 آلاف دولار مقابل وعد بإيجاد ابنها وإطلاق سراحه، لكن هذا المسؤول أوهمها بأن ابنها حيّ، وادّعى أنه دفع المبلغ لضابط سوري. وتقول أم جمال إنه بعد الاطلاع على سجن صيدنايا "كذاب اللي بقول مسامح".الهروب إلى لبنانالخوف من الثأر دفع بعشرات الفلسطينيين المتورطين بجرائم في سوريا إلى الهروب نحو لبنان، كما يقول الكاتب الفلسطيني علي بدوان في حوار مع "المدن". ويؤكد أن أمين عام حركة فتح الانتفاضة "العقيد زياد الزغير (أبو حازم) هرب إلى لبنان واختفى، وهناك أنباء أنه وصل عند مجموعة من ضباط سوريين أصدقاء له، ومن المرجح أن يكون قد غادر إلى أوروبا وفق مصدر فلسطيني موثوق".وأضاف "أما المجموعات وكذلك الفصائل الفلسطينية في سوريا التي نشأت مع الأزمة، وأسّستها مخابرات النظام السابق، وهي لواء القدس بقيادة المهندس في مخيم النيرب قرب حلب محمد السعيد، وحركة فلسطين حرة بقيادة سائد عبد العال، وحركة فلسطين الديمقراطية بقيادة مازن شقير، فانتهت بهروب قادتها على الأغلب إلى لبنان".حركة فلسطين حرة قد تكون الأكثر ارتكاباً للفظائع بحق الفلسطينيين، وبرز ذلك بشكل واضح عام 2023 حين أصدرت محكمة ألمانية، حكماً بالسجن المؤبد على أحد عناصر الحركة ويُدعى موفق دواه لارتكابه جرائم عديدة، من بينها قتل سبعة مدنيين في مخيم اليرموك وإصابة العشرات، وذلك عندما استهدف بقذيفة "أر بي جي" تجمعاً، خلال تلقيهم مساعدات إنسانية من قبل وكالة الأونروا عام 2014.تيه سياسيتعيش الساحة الفلسطينية في سوريا فراغاً في المرجعية السياسية. فالفصائل الفلسطينية التي شاركت في جرائم ضد الشعبين السوري والفلسطيني تعيش تيهاً سياسياً، وعناصرها وقيادتها الذين تورطوا مباشرة بتلك الجرائم، إما تخفوا أو فروا إلى لبنان أو اعتُقلوا. والعناصر والقيادات التي لم تتورط تسعى لطلب الحماية. وهناك فصائل رفضت الانحياز إلى النظام، أبرزها حركة حماس، فقضى ما يزيد عن 90 عنصراً من عناصرها تحت التعذيب داخل السجون، وفر الباقون خارج سوريا.ولا يُعرف حتى الآن كيف ستتعاطى الإدارة السورية الجديدة معها. وكيف ستوازن هذه الإدارة بين حاجتها لطرف فلسطيني لم ينحز نحو خيارات النظام السابق الدموية، وهو على علاقة مقبولة مع قادة الفصائل في سوريا، ويجمعه مع معظمها إطار "تحالف القوى الفلسطينية"، وبين الموازنة مع الحاجة إلى علاقات دولية وإقليمية قد لا ترحب بعلاقة قوية أو تفاهم واسع بين الحكم السوري الجديد وحركة حماس.يبقى هناك جيش التحرير الفلسطيني، الذي ألزم النظام السابق قيادته وعناصره بالانضمام إلى حزب البعث، على نقيض مع النظام الداخلي الذي يمنع الانتساب السياسي لعناصر جيش التحرير. ويكشف الكاتب علي بدوان في حديثه لـ "المدن" عن مصدر قيادي في السلطة الفلسطينية أن "التوجه هو إيقاف التجنيد للفلسطينيين في سوريا، وأن تتحول ثكنات "جيش التحرير" إلى الجيش السوري الجديد، على أن يجري التفاهم بشأن تفصيلات ذلك في الفترة المقبلة مع أعلى مستويات السلطة الفلسطينية". كما يكشف عن زيارة قريبة سيقوم بها رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية اللواء ماجد فرج إلى سوريا لبحث جملة من الملفات.يعيش في سوريا اليوم ما يزيد عن 400 ألف فلسطيني، وقد هجرها خلال الحرب ما يقارب 200 ألف، ويحاول من تبقوا تنظيم أنفسهم من خلال لجان محلية شُكّلت على عجل بعد سقوط النظام لإدارة الخدمات. ورغم الفراغ السياسي، إلا أنه أُتيح لهم لأول مرة منذ تفجّر الأزمة عام 2011، أن يعبّروا عن أنفسهم بحرية، دون خشية من عناصر فصائلية مارست التشبيح الأمني والمالي، ودفعت المجتمع إلى مستنقع فقر لم يعرفه يوماً.